بينما لم تعد تفصلنا سوى ثماني سنوات عن موعد القضاء على الجوع وانعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية بجميع أشكاله (المقصدان 2–1 و2–2 لأهداف التنمية المستدامة)، يمضي العالم في الاتجاه الخاطئ. وكما هو مبيّن في هذا التقرير، استمر ازدياد انعدام الأمن الغذائي في عام 2021، ولم يتم إحراز أي تقدم باتجاه تحقيق المقاصد العالمية الخاصة بالتغذية لعام 2030 إلا في ما يتعلّق بالرضاعة الطبيعية الخالصة لدى الرضّع الذين تقلّ أعمارهم عن ستة أشهر وبتقزّم الأطفال، في حين أن فقر الدم لدى النساء والسمنة لدى البالغين آخذان بالازدياد. ويجب أن يتمكن كل شخص من الحصول على أنماط غذائية صحية للمساعدة على منع ارتفاع مستويات سوء التغذية وعلى إعمال حق الإنسان في الغذاء، ولكن التقديرات المحدّثة تشير إلى أن حوالي 3.1 مليار شخص حول العالم يعجزون عن تحمّل كلفتها.
وما زالت الآثار المستمرة لجائحة كوفيد–19 وما يترتب عنها من تبعات، تعيق التقدم باتجاه تحقيق الهدف 2 من أهداف التنمية المستدامة بحلول عام 2030. ولقد أدّى نمط التعافي الاقتصادي المتفاوت بين البلدان في عام 2021 وخسائر الدخل التي لا يمكن التعويض عنها والتي تكبدها الأشخاص الأشد تأثرًا بالجائحة، إلى تفاقم أوجه انعدام المساواة القائمة وإلى تدهور حالة الأمن الغذائي للسكان الذين يكافحون بالفعل أكثر من غيرهم لإطعام أسرهم. وزادت أسعار الأغذية أيضًا خلال السنة الماضية بسبب الاختناقات في سلاسل الإمدادات، وارتفاع كلفة النقل، والاختلالات الأخرى الناجمة عن جائحة كوفيد–19. علاوة على ذلك، تؤدي الحرب الدائرة في أوكرانيا بين اثنين من أكبر منتجي المنتجات الزراعية والحبوب الأساسية في العالم، إلى تعطيل سلاسل الإمداد كما أنه يؤثر في الأسعار العالمية للحبوب والأسمدة والطاقة، الأمر الذي يفضي إلى نقص في الأغذية وتضخم أكبر في أسعارها. ولقد أثبت تزايد تواتر الظواهر المناخية القصوى وشدّتها أنه عامل رئيسي معطّل لسلاسل الإمداد، لا سيما في البلدان المنخفضة الدخل.
وفي المجمل، فإن اشتداد الدوافع الرئيسية الكامنة وراء انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية – النزاعات، والأحوال المناخية القصوى، والصدمات الاقتصادية، المقترنة بتزايد انعدام المساواة – التي تحدث مجتمعة في كثير من الأحيان، لا يزال يشكل تحديًا بالنسبة إلى كمية الأغذية التي يمكن أن يحصل عليها الناس وجودتها، في الوقت نفسه الذي يزيد فيه من صعوبة الوضع المالي في العديد من البلدان التي تحاول حكوماتها التخفيف من آثار هذه الدوافع.
وكما أكد الإصداران الأخيران من هذا التقرير، يجب تحويل النظم الزراعية والغذائية بطرق تضمن توفيرها أغذية مغذية أقل كلفة ومأمونة لزيادة قدرة الجميع على تحمّل كلفة الأنماط الغذائية الصحية بطريقة مستدامة وشاملة، وذلك من أجل تحقيق مقاصد الهدف 2 من أهداف التنمية المستدامة بحلول عام 2030. وذكر في هذا التقرير أنه يجب توفير الأنماط الغذائية الصحية بكلفة أقل للمساهمة في قدرة الناس على تحملها، الأمر الذي يتطلب ضمنًا زيادة المعروض من الأغذية المغذية والمأمونة التي يتألف منها النمط الغذائي الصحي، وتحوّل الاستهلاك نحوها. ومن منظور السياسات والدعوة، ينطوي ذلك أيضًا على الحاجة إلى جعل الأنماط الغذائية الصحية ميسورة الكلفة بدرجة أكبر من الأنماط الغذائية غير الصحية. وثمة نقاط دخول عديدة لتحقيق ذلك، ولكن السياق الحالي الذي يتسم بانكماش الاقتصاد وانخفاض دخل الأسر المعيشية (على الأقل بالنسبة إلى أدنى الشرائح العشرية من توزيع الدخل) وعدم انتظام الإيرادات الضريبية والضغوط التضخمية ليس السياق الذي يمكن فيه للعديد من البلدان – ولا سيما المتوسطة والمنخفضة الدخل منها – الاستثمار بكثافة في النظم الزراعية والغذائية لتيسير التعافي المقترن بتحسن الأمن الغذائي والتغذية لسكانها.
بالتالي، ينبغي النظر بعناية في الخيارات المتوافرة لتحويل النظم الزراعية والغذائية بهدف استخدام الموارد المحدودة بأكثر الطرق فعالية وكفاءة من حيث الكلفة بما يساهم في وضع الأنماط الغذائية الصحية في متناول الجميع. وفي سياق الانكماش الاقتصادي الحالي، يصبح للإنفاق العام والاستثمارات العامة أهمية خاصة لأن العديد من المستثمرين في القطاع الخاص (بما في ذلك الجهات الفاعلة في النظم الزراعية والغذائية) يفضلون تجنّب المخاطرة التي تنطوي عليها الاستثمارات في النظم الزراعية والغذائية بما أن هذه الاستثمارات تميل إلى أن تكون عالية المخاطر وتعود بمكاسب مالية قليلة، لا سيما في الأجل القصير. ولذلك، يجب على الحكومات أن تستخدم السياسات العامة لدعم توفير أنماط غذائية صحية ميسورة الكلفة من أجل تهيئة بيئة أكثر ملاءمة للاستثمارات الخاصة التي تساعد على تسريع وتيرة التعافي وتحسين الأمن الغذائي والتغذية للسكان.
إعادة توجيه دعم السياسات لزيادة القدرة على تحمّل كلفة الأنماط الغذائية الصحية بطريقة مستدامة وشاملة
من هذا المنطلق، يصبح تخصيص الميزانيات العامة الحالية وحوافز الأسعار بطريقة مختلفة، ضرورة أشد إلحاحًا؛ ويجب أن يكون بالفعل الخطوة الأولى، حتى بالنسبة إلى البلدان التي تحتاج إلى زيادة هذه الميزانيات والتي يمكنها فعل ذلك. ومن الممكن تخصيص الميزانيات العامة بطريقة تتسم بمزيد من الفعالية والكفاءة من حيث الكلفة لتحقيق أهداف التنمية، بما في ذلك تقليص كلفة الأنماط الغذائية الصحية، وبالتالي تحسين القدرة على تحمّل الكلفة بطريقة مستدامة وشاملة بما يضمن عدم ترك أي أحد خلف الركب.أ وفي هذا الصدد، يمكن للعديد من البلدان أن تعيد توجيه سياساتها الغذائية والزراعية نحو هذه الأهداف، مع ضمان وجود سياسات أخرى للنظم الزراعية والغذائية وسياسات مكمّلة لها في قطاعات أخرى – مثل الصحة والحماية الاجتماعية والبيئة – لتوليد حوافز متسقة مع هذه الغاية (انظر تعريف إعادة التوجيه ودعم السياسات للأغذية والزراعة في الإطار 1).
الإطار 1تعريف إعادة التوجيه ودعم السياسات للأغذية والزراعة
إعادة توجيه دعم السياسات – كما تم تعريفها مؤخرًا في تقرير مشترك صدر عن منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة (2021)،1 هي الحد من تدابير الدعم غير الفعالة و/أو غير المستدامة و/أو غير المنصفة والاستعاضة عنها بتدابير دعم معاكسة. وهذا يعني أنه لا يتم إلغاء الدعم، بل إعادة تشكيله. وستفترض بالتالي عملية إعادة التوجيه على الدوام إجراء عملية إصلاح.*
ويشير دعم السياسات للأغذية والزراعة في هذا التقرير، إلى أي شكل من أشكال الدعم المالي الحكومي المقدم لهذين القطاعين أو إلى السياسات الحكومية التي تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على إنتاج السلع الغذائية والزراعية والتجارة فيها على امتداد سلسلة القيمة الغذائية.
- يتألف دعم السياسات الزراعية عادة من أنواع مختلفة من التدابير التي تؤثر بشكل ضمني أو صريح على أسعار باب المزرعة أو على الربحية، أو التي توفر تحويلات نقدية إلى المزارعين أو نفقات واستثمارات عامة في الخدمات والسلع العامة** تعود بالفائدة على القطاع الزراعي. ويشمل ذلك على سبيل المثال، حوافز (مثبطات) الأسعار (ولا سيما التدابير الحدودية والتدخلات الخاصة بالأسعار المحلية) التي تمثل بشكل ضمني تحويلات من المستهلكين ودافعي الضرائب إلى المزارعين (أو العكس).
- عادةً ما يكون دعم السياسات الغذائية أوسع نطاقًا ولا يغطي كيفية إنتاج الأغذية فحسب، بل يشمل أيضًا كيفية تجهيزها أو توزيعها أو شرائها أو توفيرها والطريقة التي يتم فيها تصميم هذه السياسات لضمان صحة الإنسان وتلبية الاحتياجات التغذوية. وللأسف، فإن توافر البيانات القابلة للمقارنة على المستوى العالمي بشأن هذا الدعم للجزء الخاص بالأغذية من النظام الزراعي والغذائي ككل محدود مقارنة بدعم السياسات للزراعة فقط والذي تتوافر بشأنه بيانات محدودة بشكل أقل.
وتستخدم الحكومات السياسات لتوليد الحوافز و/أو المثبطات من أجل إحداث تغيير سلوكي لدى الجهات الفاعلة في النظم الزراعية والغذائية، والسكان، والنتائج التي يحققها القطاع الزراعي والغذائي.*** وتتأثر الحكومات أيضًا بالسياسات المتبعة في بلدان أخرى؛ ولذلك، ليست السياسات الخاصة بالبلدان وحدها مهمة.
ولأن موضوع هذا التقرير يركّز على إعادة توجيه السياسات الغذائية والزراعية على السواء، يُستَخدم مصطلح "النظم الزراعية والغذائية" بدلًا من مصطلح "النظم الغذائية" المستخدم في الإصدارات السابقة. والسبب في ذلك هو أن مصطلح "النظم الزراعية والغذائية" بات مستخدمًا بشكل متزايد في سياق تحويل النظم الغذائية تحقيقًا للاستدامة والشمول، وتعريفه أوسع لأنه يشمل النظم الغذائية والنظم الزراعية على السواء ويركّز على المنتجات الزراعية الغذائية وغير الغذائية التي هناك تداخل واضح في ما بينها.****
- يتواءم تعريف إصلاح السياسات المعتمد في هذا التقرير مع تعريف منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي. وعليه، فإن إصلاح السياسات هو عملية تجرى فيها التغيّرات وفقًا لـ "قواعد اللعبة" – بما في ذلك القوانين واللوائح والمؤسسات – من أجل معالجة مشكلة معيّنة أو تحقيق هدف معيّن.2 ** تشير إلى الخدمات العامة والدعم المقدم للسلع العامة من قبيل الاستثمارات العامة في البحث والتطوير، وخدمات التسويق، والبنية التحتية (مثل الري والطرق والتزويد بالكهرباء). *** الحوافز (أو المثبطات) هي في هذا السياق نتيجة السياسات التي تحدث تغييرًا في السلوك من أجل تحقيق نتيجة قطاعية منشودة. وهي أوسع نطاقًا من (ولكنها تشمل) التعريفات الفنية الأكثر تحديدًا لحوافز الأسعار التي تعكس تأثير التجارة في المنتجات الزراعية والتدابير المتعلقة بسياسات السوق. **** انظر مسرد المصطلحات في الملحق 7 للاطلاع على تعريف مصطلح "النظم الزراعية والغذائية" والفارق بينه وبين مصطلح "النظم الغذائية".
ومن المؤسف أن القليل جدًا من دعم السياسات للأغذية والزراعة قد صمم صراحةً لتحقيق الأهداف المتعلّقة بجميع أبعاد الأمن الغذائي والتغذية والأهداف البيئية بشكل متزامن ومتناسق. وعلاوة على ذلك، فإن غالبية تدابير السياسات قد صممت ونفذت بمعزل عن غيرها، ولغرض محدد، من دون النظر في العواقب غير المقصودة التي قد تترتب عليها في أبعاد أخرى.
ونتيجة لذلك، قدمت السياسات القائمة حوافز لتطوّر النظم الزراعية والغذائية الحديثة بطريقة جعلت كلفة الأنماط الغذائية الصحية أعلى بمقدار خمسة أضعاف من كلفة الأنماط الغذائية التي تلبي متطلبات الطاقة الغذائية فقط من خلال أحد الحبوب الأساسية.3 ولقد أدّت هذه السياسات أيضًا إلى تزايد الأغذية الرخيصة الثمن الكثيفة الطاقة وذات القيمة التغذوية المتدنية. وإن الكلفة الصحية للأنماط الغذائية غير الصحية مرتفعة هي أيضًا – حيث يُتوقع أن تتجاوز الكلفة الصحية للوفيات والأمراض غير المعدية المرتبطة بالنمط الغذائي 1.3 تريليون دولار أمريكي سنويًا بحلول عام 2030. 3 وفي الوقت نفسه، أصبحت النظم الزراعية والغذائية مصدرًا رئيسيًا لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري في العالم وتمارس ضغوطًا مفرطة على الأراضي والمياه ونظم الموارد الطبيعية الأخرى. ومن المتوقع أن تتجاوز الكلفة الاجتماعية المرتبطة بالنمط الغذائي لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري المتصلة بالنظم الزراعية والغذائية الحالية ونماذج الأنماط الغذائية التي تدعمها، 1.7 ترليون دولار أمريكي في السنة بحلول عام 2030. ومن شأن التحوّل إلى نماذج الأنماط الغذائية النباتية أن يخفض الكلفة الاجتماعية لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري بنسبة تتراوح بين 41 و74 في المائة في عام 2030. 3
وهناك تاريخ طويل من دعم السياسات للأغذية والزراعة المدفوع بمعظمه بالحاجة إلى تعزيز الإنتاجية الزراعية، لا سيما للحبوب الأساسية، و/أو حماية المداخيل الزراعية و/أو كفالة الأمن الغذائي الوطني.4 وفي الماضي، كان يتم تصميم السياسات الوطنية المتعلّقة بالأمن الغذائي بهدف ضمان توافر الأغذية على المستوى الوطني، ولا سيما الحبوب (مثل الذرة أو القمح أو الأرزّ). ونتيجة لذلك، نجحت النظم الزراعية والغذائية في جميع أنحاء العالم في توفير الأغذية التي تؤمن الطاقة الغذائية على شكل حبوب متدنية الكلفة. وباستطاعة غالبية الفقراء في كل إقليم وبلد في العالم أن يتحمّلوا كلفة الحبوب لتلبية احتياجاتهم اليومية من الطاقة الغذائية.3 ولكن ذلك غير كافٍ لتلبية الاحتياجات الغذائية الأخرى، بما في ذلك المغذيات الكبيرة والدقيقة الملائمة والمتناول المتنوع من الأغذية التي تساعد على الوقاية من سوء التغذية بجميع أشكاله ومن الأمراض غير المعدية المتصلة بالنمط الغذائي.3 ولا تمثل الكلفة الإجمالية للأغذية الأساسية سوى 15 في المائة في المتوسط من كلفة الأنماط الغذائية الصحية.
ولا يتسق معظم الدعم المقدم حاليًا للسياسات الزراعية مع الهدف الوطني المتمثل في تشجيع الأنماط الغذائية الصحية، كما أنه يقوّض في حالات عديدة الأمن الغذائي والنتائج التغذوية بشكل غير متعمد ويساهم في زيادة الوزن الزائد والسمنة والأمراض غير المعدية المتصلة بالنمط الغذائي. وعلى سبيل المثال، يظهر القسم 3–1 أن السلع الكثيفة السكر أو الانبعاثات (مثل لحم البقر والحليب) تحظى بالقدر الأكبر من الدعم في جميع أنحاء العالم رغم الآثار السلبية المحتملة للمتحصل الكبير من السكر على الصحة، ولانبعاثات الكربون الكبيرة من قطاع الثروة الحيوانية على التكيّف مع تغيّر المناخ والتخفيف من آثاره. ويولّد هذا الدعم أيضًا مثبطات (نسبية) أمام إنتاج كميات أكبر من الأغذية المغذية مثل الفاكهة والخضار والمحاصيل البقولية. ولكن تبقى الأدلة المفصلة على الآثار المترتبة عن هذه السياسات من حيث كلفة الأغذية المغذية والقدرة على تحمّل كلفة الأنماط الغذائية الصحية، شحيحة.
علاوة على ذلك، لا يتوزع معظم الدعم الحالي للسياسات الغذائية والزراعية توزيعًا منصفًا، ولا سيما الدعم المشروط (أو المقترن) بأحجام محددة من إنتاج بعض السلع أو باستخدام مدخلات معيّنة، وهي شروط لا يمكن لبعض صغار المزارعين بشكل خاص أن يستوفوها. وهذا يعني أن معظم الدعم الحالي للسياسات الغذائية والزراعية مشوِّه للأسواق من حيث عدم وجود منافسة حرّة ومفتوحة، ويميل إلى إفادة كبار المنتجين القادرين على تلبية شروط الحصول عليه (أي أحجام الإنتاج الخاصة بمنتجات محددة، واستخدام المدخلات، وما إلى ذلك) كما هي الحال بشكل خاص في الدعم المقرون.
ولهذه الأسباب، ثمة حاجة ملحّة إلى إعادة النظر في توزيع النفقات العامة من أجل إعادة توجيه السياسات الغذائية والزراعية. ويجب النظر بعناية في خيارات إعادة التوجيه ليس فقط من حيث الإنتاج الزراعي (كميته وتنوعه على السواء)، بل أيضًا على امتداد سلاسل الإمدادات الغذائية، وفي البيئات الغذائية، وفي ما يتعلّق بسلوك المستهلكين. وتتسم إعادة النظر هذه بأهمية حاسمة لأن العوامل التي تتسبب بارتفاع أسعار الأغذية المغذية موجودة على امتداد النظم الزراعية والغذائية، على النحو المبيّن في إصدار عام 2020 من هذا التقرير.ب إضافة إلى ذلك، يجب إجراء تقييم متأنٍ للمقايضات المحتملة التي تسببها إعادة توجيه الدعم الغذائي والزراعي. فعلى سبيل المثال، يُعدّ الأرزّ سلعة كثيفة الانبعاثات وتوفّر السعرات الحرارية ولكنه يحتوي على القليل من المغذيات الدقيقة، ومع ذلك، فإنه يحظى بدعم كبير في جميع أنحاء العالم ذلك أنه يمثل الغذاء الأساسي لأكثر من 3 مليارات شخص (القسم 3–1). ويجب أن تشكل الاعتبارات الخاصة بالاستدامة البيئية، والنتائج التغذوية، والقدرة على تحمّل كلفة الأنماط الغذائية الصحية، جزءًا من استراتيجية مدروسة بعناية لإعادة توجيه الدعم المقدم للأرزّ. وتسلّط هذه الاعتبارات الضوء على مدى ضرورة اتباع نهج قائم على النظم الزراعية والغذائية لإعادة توجيه دعم السياسات للأغذية والزراعة (الشكل 1). وسيستلزم هذا النهج النظر في العلاقة بين السياسات، وتوافر الأغذية المغذية وكلفتها مقارنة بالأغذية ذات كثافة الطاقة العالية والقيمة التغذوية المتدنية والتي غالبًا ما تكون رخيصة الثمن، ومداخيل الناس، والآثار التغذوية والبيئية الناجمة عن النظم الزراعية والغذائية. وينطوي هذا الاعتبار على زيادة إمدادات الأغذية المغذية التي تشكل نمطًا غذائيًا صحيًا والقيام في الوقت نفسه بخفض كلفتها المطلقة، وعلى خفض الكلفة النسبية للأنماط الغذائية الصحية. وسيتطلب تحويل الأنماط الحالية لاستهلاك الأغذية من أجل القضاء على الجوع وسوء التغذية بجميع أشكاله، تنفيذ السياسات والدعوة على السواء.
الشكل 1نهج النظم الزراعية والغذائية ضروري لإعادة توجيه دعم السياسات للأغذية والزراعة
ولا تحدَّد القدرة على تحمّل كلفة الأنماط الغذائية الصحية عبر كلفة الأغذية المغذية التي تتألف منها هذه الأنماط الغذائية فقط، بل أيضًا عبر كلفة هذه الأنماط الغذائية نسبة إلى مداخيل الناس وكلفة الأغذية المغذية نسبة إلى الأغذية التي تحتوي على نسبة عالية من الدهون و/أو السكر و/أو الملح والتي قد تكون متاحة على نطاق واسع ويتم الترويج لها بكثافة. ولقد أظهرت الإصدارات السابقة من هذا التقرير كيف أن الحد من الفقر وانعدام المساواة أمر بالغ الأهمية لتحسين قدرة الناس على الحصول على القدر الكافي من الغذاء المغذي، مع الإشارة إلى توصيات ملموسة في مجال السياسات. وبالرغم من أن المسألة الأوسع نطاقًا المتمثلة في كيفية زيادة مداخيل الناس تقع في صلب التنمية الاقتصادية، إلا إنها تتجاوز نطاق تقرير هذه السنة؛ فينصب التركيز بدلًا من ذلك على إعادة توجيه دعم السياسات لخفض كلفة الأنماط الغذائية الصحية. ولكن في معرض السعي إلى إعادة توجيه دعم السياسات للأغذية والزراعة من أجل خفض كلفة الأنماط الغذائية الصحية، لا بد من النظر في الآثار المترتبة عن مختلف مجموعات السياسات المعاد توجيهها على الدخل، بما في ذلك الدخل الزراعي، وفي المقايضات التي تولّدها، والحاجة إلى النظر بعناية في كلتيهما وإدارتهما.
وفي الوقت نفسه، من المهم الاعتراف بأنه في حين يمكن لدعم السياسات للأغذية والزراعة أن يولّد الحوافز الصحيحة في نهاية الأمر وأن يؤدي إلى إحداث الآثار المرجوة داخل النظم الزراعية والغذائية، فإن ما يحدث في أماكن أخرى قد يؤدي إلى عكس ذلك. وبالتالي، فإن استكمال السياسات داخل النظم الزراعية والغذائية وفي قطاعات أخرى خارج هذه النظم يحتاج إلى النظر فيه مؤقتًا ومن حيث أوجه التآزر والمقايضات لتحقيق اتساق السياسات اللازم للاستفادة إلى أقصى حد من الموارد المتاحة، بما في ذلك في قطاعي الصحة والبيئة.
ولكن إعادة توجيه دعم السياسات للأغذية والزراعة قد يستغرق بعض الوقت لتؤتي ثمارها من حيث خفض كلفة الأغذية المغذية، أو أنها قد تؤدي إلى انعدام الأمن المعيشي وفقدان الدخل في الأجل القصير. وبعبارة أخرى، لن تكون هذه العملية خالية تمامًا من المقايضات؛ بالتالي، قد يلزم اعتماد تدابير التخفيف من الأثر مثل الحماية الاجتماعية لتجنّب التبعات غير المقصودة، ولا سيما على الأشخاص الأشد تأثرًا بالتغييرات أثناء الفترة الانتقالية. وسيلزم التخطيط بطريقة مختلفة لإعادة توجيه دعم السياسات للأغذية والزراعة ولاستكمال السياسات المعتمدة داخل النظم الزراعية والغذائية وخارجها، تبعًا للخصائص الهيكلية للبلدان، بما في ذلك حالة الدخل، وهيكل الإنتاج، وتخصيص الموارد الطبيعية، والمكانة التجارية الصافية، وحالة الأمن الغذائي والتغذية، واعتبارات الاقتصاد السياسي فيها.
وتمثل إعادة توجيه دعم السياسات للأغذية والزراعة القائمة خطوة أولى حاسمة يوفّر هذا التقرير الأدلة عليها والتوجيهات السياساتية بشأنها. ولكن لن يكون ذلك كافيًا لضمان توافر الأنماط الغذائية الصحية للجميع بكلفة ميسورة في العديد من البلدان التي ستحتاج إلى زيادة الاستثمارات في قطاعي الأغذية والزراعة. ولن تكون بعض البلدان قادرة على إعادة توجيه أي دعم كان نظرًا إلى محدودية الموارد العامة التي تخصصها حاليًا لدعم السياسات للأغذية والزراعة. وسيكون من الضروري بالنسبة إلى هذه البلدان بوجه خاص، زيادة الإنفاق، سواً الإنفاق العام أو الاستثمار الخاص، بما في ذلك من خلال خيارات التمويل المختلط. ويمثل تحديد هذه البلدان مساهمة رئيسية أخرى يقدمها هذا التقرير.
العلاقة بين دعم السياسات للأغذية والزراعة وكلفة الأغذية المغذية
ستشكل إعادة توجيه دعم السياسات للأغذية والزراعة بهدف خفض كلفة الأغذية المغذية من أجل زيادة قدرة الجميع على تحمّل كلفة الأنماط الغذائية الصحية، خطوة حاسمة بالنسبة إلى العديد من البلدان لبلوغ مقاصد الهدف 2 من أهداف التنمية المستدامة بحلول عام 2030، بما في ذلك المقاصد المتعلّقة بالزراعة المستدامة، ولتحقيق أهداف أخرى للتنمية المستدامة. وفي الوقت الراهن، يعجز حوالي 3.1 مليار شخص (القسم 2–3) في العالم حتى عن تحمّل كلفة أرخص نمط غذائي صحي بالرغم من أنه ضروري للصحة الجيدة والرفاه. بالتالي، سيساهم جعل الأنماط الغذائية الصحية في متناول الجميع من الناحية الاقتصادية في تحقيق الهدف 3 من أهداف التنمية المستدامة (الصحة الجيدة والرفاه)، كما أنه سيتيح فرصًا أكثر للوصول بالتساوي إلى الأغذية المغذية وسيحسّن الصحة والأمن الغذائي والتغذية، الأمر الذي يساهم بدوره في تحقيق الهدف 10 من أهداف التنمية المستدامة (الحدّ من أوجه انعدام المساواة). وعلاوة على ذلك، يمكن للتحوّل إلى أنماط غذائية صحية أن يساهم في الحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري على النحو المبيّن في الإصدارات السابقة من هذا التقرير؛3 وبالتالي، فهي ليست مفيدةً لصحة السكان فحسب، بل أيضًا لصحة الكوكب، ويمكن أن تكون بالتالي حلّا مربحًا للجميع يساهم في تحقيق الهدفين 12 (الاستهلاك والإنتاج المسؤولان) و13 (العمل المناخي) من أهداف التنمية المستدامة.
ويعرض تقرير هذا العام أولًا آخر المعلومات عن حالة الأمن الغذائي والتغذية في العالم، بما في ذلك التقديرات المحدّثة بشأن كلفة الأنماط الغذائية الصحية والقدرة على تحملها (الفصل 2). ويغوص التقرير بعمق بعد ذلك في «إعادة توجيه دعم السياسات للأغذية والزراعة لزيادة القدرة على تحمّل كلفة الأنماط الغذائية الصحية» من خلال خفض كلفة الأغذية المغذية مقارنة بالأغذية الأخرى ودخل الناس، الأمر الذي يساعد بدوره البلدان على استخدام الموارد العامة المحدودة – في الكثير من الحالات – بطريقة أكثر فعالية وكفاءة.
وتجرى أولًا عملية تقييم لاستكشاف دعم السياسات للأغذية والزراعة الأكثر شيوعًا المعمول بها حاليًا في العالم، وحجم الدعم المقدم، والأنشطة والجهات الفاعلة التي يتم دعمها (أو على العكس، معاقبتها) أكثر من غيرها، والمسارات التي يؤدي هذا الدعم من خلالها إلى رفع الكلفة النسبية للأغذية المغذية وإلى تشجيع الأنماط الغذائية غير الصحية (الفصل 3). وثانيًا، يتم توفير التوجيهات – المستندة إلى التحليل والأدلة – بشأن مزيج الدعم البديل للسياسات الغذائية والزراعية الذي يساعد على خفض كلفة الأغذية المغذية، فضلاً عن طريقة إدارة المقايضات الناتجة عن ذلك لضمان ألا تكون النظم الزراعية والغذائية أكثر كفاءة فقط، بل أكثر استدامة وشمولًا أيضًا. وأخيرًا، يلقي التقرير نظرة فاحصة على السياسات التكميلية داخل النظم الزراعية والغذائية وخارجها المهمة لدعم جهود إعادة التوجيه، وعلى عوامل وديناميات الاقتصاد السياسي التي تعرقل جهود إعادة التوجيه أو تيسّرها (الفصل 4).