وضع تفشي جائحة كوفيد - 19 في مطلع عام 2020 والتدابير المتخذة لاحتوائه عبر البلدان أسواق المنتجات الغذائية والزراعية في العالم أمام اختبار صعب. واضطرت النظم الزراعية والغذائية الوطنية إلى استغلال أقصى قدراتها ولكنها استمرت في توفير أغذية كافية ومغذية وآمنة في جميع أنحاء العالم. وواصلت التجارة الدولية، رغم القيود الكبيرة المفروضة على حركة الأشخاص وعدم اليقين الذي خيّم على العالم، ربط المناطق التي تتمتع بفائض غذائي بتلك التي تعاني من عجز غذائي، الأمر الذي وفّر حماية للأمن الغذائي والتغذية على نطاق العالم. وعلى عكس ما حدث خلال أزمة أسعار المواد الغذائية العالمية لعام 2008، استمر التعاون العالمي، وسمح ذلك لسياسات تجارة المنتجات الزراعية بدعم الأسواق العالمية التي تعمل بشكل جيد.
ويهدد الصراع القائم اليوم في إحدى سلال الخبز في العالم الأمن الغذائي العالمي بطرق متعددة، بما في ذلك من خلال الإخلال بأسواق المنتجات الغذائية والزراعية في العالم. ولم تؤد الحرب في أوكرانيا إلى أزمة إنسانية حادة والتهديد بتفاقم انعدام الأمن الغذائي العالمي فحسب، بل أدت أيضًا إلى حدوث اختلال محتمل في التعاون التجاري العالمي.
ويمكن للتعاون العالمي في سياسات تجارة المنتجات الزراعية أن يتصدى للتحديات العالمية، مثل الأزمات الاقتصادية والجوائح والصراعات وتغير المناخ، ويمكنه أن يساهم في تحقيق الأمن الغذائي والأنماط الغذائية الصحية للجميع. ومنذ عام 1995، شجّع إنشاء منظمة التجارة العالمية وقواعدها التجارية المتعددة الأطراف بيئة تجارية أكثر حرية وإنصافًا وأكثر قابلية للتنبؤ بها، جنبًا إلى جنب مع عدد كبير من اتفاقات التجارة الإقليمية، تجارة المنتجات الغذائية والزراعية والنمو الاقتصادي.
وأدت في الوقت عينه العولمة المتزايدة لأسواق المنتجات الغذائية والزراعية إلى مخاوف بشأن الآثار المحتملة للتجارة على البيئة والمجتمعات. ويُنظر إلى التجارة الدولية بالمنتجات الغذائية والزراعية على أنها تساهم في استنفاد الموارد الطبيعية، مما يؤدي إلى إزالة الغابات وفقدان التنوع البيولوجي، وتسريع التغييرات في أنماط الحياة والأنماط الغذائية، وزيادة عدم المساواة.
وتتسم حاليًا بيئة السياسات التجارية باصطدام المفاوضات التجارية المتعددة الأطراف في إطار منظمة التجارة العالمية بحائط مسدود وانتشار وفرة من اتفاقات التجارة الإقليمية الأعمق التي تهدف، بالإضافة إلى الوصول إلى الأسواق، إلى تعزيز التقارب في السياسات والأنظمة المحلية لدى الجهات الموقّعة عليها. وقد تطور تحرير التجارة المتعددة الأطراف واتفاقات التجارة الإقليمية بصورة متوازية منذ نهاية القرن العشرين، الأمر الذي أدى إلى تحقيق مكاسب من التجارة وعزّز التكامل الاقتصادي.
ويتناول إصدار عام 2022 من تقرير حالة أسواق السلع الزراعية الطرق التي يمكن من خلالها للسياسات التجارية القائمة على الجهود الإقليمية والمتعددة الأطراف على حد سواء أن تتصدى للتحديات التي تواجه التنمية المستدامة اليوم بموازاة تعزيز قدرة النظام الزراعي والغذائي العالمي على الصمود في وجه الصدمات، مثل النزاعات والجوائح والأحوال المناخية المتطرفة.
جغرافيا التجارة
يبحث هذا التقرير في نُهج التعاون المختلفة في التكامل التجاري من أجل النمو المستدام عن طريق توفير إطار منهجي لتقييم جغرافيا تجارة المنتجات الغذائية والزراعية. ويركّز التحليل على أنماط تجارة المنتجات الغذائية والزراعية عبر الحيّز الجغرافي، ومحركاتها ودورها في تشكيل بيئة السياسات التجارية في يومنا هذا.
ويوفّر النظر في جغرافيا التجارة العديد من الرؤى الثاقبة القيّمة من أجل تحليل التنمية المستدامة. أولًا، يجعل وضع خرائط تجارة المنتجات الغذائية والزراعية من الأسهل فهم تطور الاتجاهات مثل العولمة والتكامل الإقليمي وعلاقتها بالنمو الاقتصادي. ويمكن أن تساعد هذه الاتجاهات أيضًا في تقييم قدرة أسواق المنتجات الغذائية والزراعية في العالم على الصمود في وجه الصدمات، مثل الحرب الراهنة في أوكرانيا، وانعكاساتها على الأمن الغذائي والتغذية.
ثانيًا، تسلط جغرافيا التجارة الضوء على الفجوات الكبيرة القائمة عبر البلدان. وقد شهدت الثروة العالمية نموًا، غير أن الحصة التي تطالب بها البلدان المنخفضة الدخل من هذه الثروة لم تتغير كثيرًا. وتُعدّ الفجوة في الإنتاجية الزراعية هائلة أيضًا. ويمكن للاختلافات النسبية في الإنتاجية الزراعية عبر البلدان أن تحدد تأثير الميزة النسبية في أسواق المنتجات الغذائية والزراعية وأن تحدد معالم أنماط التجارة. وتعتبر تكاليف التجارة، التي تصوغها الجغرافيا أيضًا، كبيرة ويمكن أن تعزل البلدان المنخفضة الدخل جزئيًا، مما يحد من فرص النمو والتنمية.
ثالثًا، يبيّن النظر إلى التجارة من منظور جغرافي التوزيع غير المتكافئ للموارد الطبيعية. وتعتبر الأراضي والمياه من العوامل الرئيسية للإنتاج التي تساهم أيضًا في تحديد معالم الميزة النسبية. ومع أن التجارة تساعد المناطق التي تتمتع بثروات قليلة من الموارد، مثل البلدان التي تعاني من الإجهاد المائي، على ضمان الأمن الغذائي، إلا أنها قادرة على التأثير على البيئة أيضًا. ومع تزايد استهلاك الأغذية بعيدًا عن مكان إنتاجها، بات بإمكان التجارة أن تولّد آثارًا بيئية خارجية في جميع أنحاء العالم. ويمكن أن يؤدي الإنتاج لغرض التصدير إلى زيادة الضغط على الموارد الطبيعية المستنفدة بالفعل والتأثير على الغابات والتنوع البيولوجي.
ويلقي هذا التحليل لجغرافيا تجارة المنتجات الغذائية والزراعية الضوء على المقايضات بين مختلف أهداف التنمية المستدامة ويساعد في مناقشة البيئة السياساتية المعقدة. وقد تعثّرت تعددية الأطراف، كما انعكست في جولة مفاوضات منظمة التجارة العالمية في الدوحة، فيما التكتلات التجارية الإقليمية الأعمق آخذة في الازدياد أيضًا. ويهدف كلا النهجين إلى تعزيز التكامل التجاري والنمو الاقتصادي بموازاة معالجة آثار التجارة على البيئة. وضمن هذين النهجين، يدرس تقرير حالة أسواق السلع الزراعية لعام 2022 فعالية السياسات التجارية في مواجهة تحديات العالم في يومنا هذا.
العولمة وإضفاء الطابع الإقليمي
توسعت تجارة المنتجات الغذائية والزراعية بسرعة في الألفية الجديدة مدفوعة بتحرير التجارة على المستويين المتعدد الأطراف والإقليمي. وبات عدد أكبر من البلدان اليوم تربطه مبادلات تجارية مع البلدان الأخرى. وأصبحت الاقتصادات الناشئة من الجهات الفاعلة الهامة، كما تم إدماج البلدان المنخفضة الدخل بشكل أفضل في الأسواق العالمية. ومع أن عملية العولمة هذه قد أحدثت تغييرات هامة في هيكل السوق العالمية للمنتجات الغذائية والزراعية، إلا أنها فقدت زخمها منذ الأزمة المالية في عام 2008.
تعثّرت العولمة في عام 2008 غير أن مزيدًا من البلدان تربطها علاقات تجارية مع بعضها البعض وأصبح سوق المنتجات الغذائية والزراعية في العالم أقل تركيزًا وأكثر توازنًا اليوم مما كان عليه في عام 1995.
أصبحت السوق العالمية للمنتجات الغذائية والزراعية أقل تركيزًا وأكثر لامركزية. وفي عام 1995، هيمن عدد قليل من الجهات الفاعلة الكبرى على السوق العالمية. وبمرور الزمن، زاد عدد كبار التجار، في حين ضعفت هيمنتهم. وتعكس هذه التغييرات الهيكلية التكافؤ النسبي في الفرص واتسام السوق العالمية للأغذية بطابع ملائم للنمو الاقتصادي. وعلى سبيل المثال، تُعتبر احتمالات أن تربط علاقات تجارية البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل بالاقتصادات المرتفعة الدخل أعلى اليوم مما كانت عليه قبل عقدين من الزمن. ويُعدّ ذلك هامًا كون التجارة تيسّر نشر التكنولوجيا والمعرفة وتعزز الإنتاجية والنمو بشكل عام.
تُعدّ كثافة التجارة أعلى ضمن الأقاليم وليس عبرها، ويُعتبر إضفاء الطابع الإقليمي على تجارة المنتجات الغذائية والزراعية أكثر وضوحًا نسبيًا
غير أن الأسواق الإقليمية لا تزال تؤدي دورًا هامًا ضمن هذا السياق العالمي. وبات إضفاء الطابع الإقليمي على تجارة المنتجات الغذائية والزراعية - وميل البلدان إلى التجارة ضمن إقليم ما عوضًا عن التجارة مع بلدان واقعة خارج الإقليم - أكثر وضوحًا. وتشكّل البلدان مجموعات تجارية قد تكون إقليمية أو تتوسع لتشمل بلدانًا عبر الأقاليم وتميل إلى التجارة فيها بشكل أكبر. وغالبًا ما تتشكل مثل هذه التجمعات على أساس القرب الجغرافي والتكامل الاقتصادي الذي تقوم بصياغته الاتفاقات التجارية. وتُعتبر العديد من هذه المجموعات مستقرة نسبيًا، مثل إحدى المجموعات التي تضم بلدانًا في أمريكا الشمالية واللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي. وتميل مجموعات أخرى إلى أن تكون أقل استقرارًا؛ وعلى سبيل المثال، يبدو أن البلدان الأفريقية تقوم بالتجارة بصورة أكبر مع شركاء من خارج القارة
زادت قدرة سوق المنتجات الغذائية والزراعية في العالم على الصمود، لكن العديد من البلدان لا تزال عرضة للصدمات التجارية وينبغي عليها تنويع مصادر وارداتها لحماية أمنها الغذائي
مع قيام البلدان بزيادة عدد شركائها التجاريين، زادت كثافة سوق المنتجات الغذائية والزراعية في العالم. وأدى ذلك إلى تعزيز قدرة السوق على التحمل والصمود في وجه الصدمات مقارنة ببداية القرن الحادي والعشرين. إلا أن هناك عددًا قليلاً فقط من البلدان التي لا تزال حصتها تمثّل معظم القيمة المتداولة، ويتلقى عدد قليل من البلدان فقط مجموعة كبيرة ومتنوعة من المنتجات الغذائية والزراعية من العديد من جهات التصدير المختلفة. وتتركّز واردات معظم البلدان على عدد قليل من المنتجات من عدد محدود من الشركاء التجاريين، مما يجعلها عرضة للصدمات التي تحدث في الأسواق المصدّرة. ويجب على البلدان أن تسعى إلى تنويع المنتجات التي تستوردها وزيادة عدد شركائها التجاريين من أجل تعزيز قدرتها على الصمود وضمان الأمن الغذائي والأنماط الغذائية الصحية.
الدوافع الأساسية لتجارة المنتجات الغذائية والزراعية
شكّلت تجارة المنتجات الغذائية والزراعية جزءًا أساسيًا من تاريخنا وهي تؤدي دورًا هامًا في المجتمعات. وتنخرط البلدان في التجارة من أجل تصدير ما يمكنها إنتاجه بكلفة أقل مقارنة بالبلدان الأخرى، كما تستورد ما يعتبر إنتاجه محليًا أكثر كلفة نسبيًا. وبالنسبة إلى بلد ما، يمكن لعوامل عديدة أن تؤثر على تجارة المنتجات الغذائية والزراعية، ولكنّ العامل الأشد تأثيرًا يكمن في الميزة النسبية – أي قدرة بلد ما على إنتاج سلعة معينة بكلفة فرصة بديلة أقل بالمقارنة مع شركائه التجاريين.
يمكن للفروق في الإنتاجية الزراعية بين البلدان المتقدمة والبلدان النامية أن تكون كبيرة للغاية، حيث تواجه الاقتصادات المنخفضة الدخل قيودًا كبيرة في اعتماد تكنولوجيات أفضل
تعدّ الفجوة في الإنتاجية في قطاع الزراعة هائلة. وفي المتوسط، ينتج أعلى 10 في المائة من البلدان الأغنى قيمة مضافة زراعية لكل عامل تزيد بمقدار 70 ضعفًا تقريبًا عن تلك التي تنتجها البلدان التي تقع في أدنى 10 في المائة من توزيع الدخل. ويواجه العديد من البلدان المتوسطة والمنخفضة الدخل قيودًا كبيرة في اعتماد التكنولوجيا والوصول إلى المدخلات الحديثة. وتساهم العديد من العوامل الأخرى، بما في ذلك صغر متوسط حجم المزارع ومحدودية الوصول إلى التأمين والائتمان والتعليم، لا سيما بالنسبة إلى النساء، في تدني الإنتاجية الزراعية في بلدان العالم النامي.
في السوق العالمية، كلما زاد التباين في الإنتاجية النسبية عبر البلدان، كلما أصبح تأثير الميزة النسبية أقوى
تؤدي الاختلافات النسبية في الإنتاجية، بالإضافة إلى التوزيع غير المتكافئ للموارد الطبيعية، إلى اختلافات في أسعار المنتجات الغذائية عبر البلدان، وهي تحدد تأثير الميزة النسبية في السوق العالمية. وفي المتوسط، كلما زاد التباين في الإنتاجية النسبية عبر البلدان، كلما أصبح تأثير الميزة النسبية أقوى وكلما زادت التجارة. ويعني مبدأ الميزة النسبية أن جميع البلدان تستفيد نتيجة التجارة.
يمكن أن يَضعُف دور الميزة النسبية في تشكيل تجارة المنتجات الغذائية والزراعية في العالم بفعل السياسات التجارية وتكاليف التجارة
إلا إن ذلك ليس هو الحال دائمًا. وتؤثر السياسات التجارية على العلاقة بين الميزة النسبية والتجارة. وعلى سبيل المثال، قد يؤدي دعم الصادرات الذي ألغاه المؤتمر الوزاري لمنظمة التجارة العالمية لعام 2015 في نيروبي في حالة المنتجات الزراعية إلى عكس العلاقة بين الميزة النسبية والتجارة، مما يؤدي إلى تصدير السلع التي كان من الممكن استيرادها، والعكس صحيح. وتعيق تكاليف التجارة تأثير الميزة النسبية أيضًا.
يمكن لتكاليف التجارة أن تكون باهظة – وبالنسبة إلى البلدان المنخفضة الدخل، يمكن أن تعيق التكاليف العالية للتجارة التكامل التجاري وأن تؤثر على التحول الهيكلي للاقتصاد
يمكن للتجارة أن تكون مكلفة، كما تزيد المسافة على وجه العموم من تكاليف النقل. وهناك أيضًا تكاليف أخرى تتعلق بإجراءات التأمين والتصدير والاستيراد والتأخير عند الحدود. وفي المتوسط، يواجه المنتج الغذائي ثمانية إجراءات غير مرتبطة بالتعريفات الجمركية ومعايير مختلفة، ويزيد الامتثال بشكل كبير من كلفة التجارة. وتقدّر تكاليف التجارة في البلدان المنخفضة الدخل بما يصل إلى 400 في المائة على أساس القيمة المكافئة. وتعيق هذه التكاليف العالية التكامل التجاري.
وعلى سبيل المثال، يؤدي ضعف تأثير الميزة النسبية وارتفاع تكاليف التجارة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى إلى تدني كثافة التجارة داخل الإقليم. وتربط علاقات تجارية أكبر بلدان الإقليم مع بلدان خارجه أكثر منه في ما بينها. ويمكن أن يؤدي ارتفاع تكاليف التجارة أيضًا إلى عدم قيام بلد ما بالتجارة بقدر ما كان سيحدث في ما لو كانت تكاليف التجارة أدنى. وعلى وجه الخصوص، وبالنسبة إلى البلدان المنخفضة الدخل التي تتميز بإنتاجية زراعية منخفضة نسبيًا، يمكن أن يؤدي ارتفاع تكاليف التجارة وتراجع التجارة إلى توسع القطاع الزراعي مقارنة بقطاعات الاقتصاد الأخرى، وهو أمر ضروري لتلبية احتياجات السكان من الأغذية. ويمكن أن يعيق ذلك التحول الهيكلي للاقتصاد.
يمكن أن تؤدي زيادة الإنتاجية وخفض الحواجز الجمركية وتكاليف التجارة إلى زيادة المكاسب المتأتية من التجارة غير أن السياسات التكميلية ضرورية للحد من أوجه عدم المساواة الممكنة
لا يجب على السياسات أن تسعى إلى تحسين الإنتاجية الزراعية فحسب، بل أن تعمل أيضًا على الحد من تكاليف التجارة لجني فوائد التجارة. وستؤدي التدابير المتخذة لزيادة التكامل التجاري في سياق منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية دورًا هامًا للنمو الاقتصادي والتنمية في الإقليم. وسيزيد انخفاض تكاليف التجارة من انفتاح البلدان على التجارة وسيتيح الاستفادة من الميزة النسبية، مما يؤدي إلى جني مكاسب من التجارة. غير أن الانفتاح التجاري يمكن أن يؤدي في البلدان ذات الإنتاجية الزراعية المنخفضة إلى خسائر، لا سيما بالنسبة إلى المزارعين من أصحاب الحيازات الصغيرة العاجزين عن زيادة كفاءتهم والمنافسة في أسواق أكثر انفتاحًا. وستبرز الحاجة إلى سياسات تكميلية من أجل تحسين الوصول إلى التكنولوجيا والمدخلات الحديثة، بالإضافة إلى تيسير إعادة توزيع العمالة على القطاعات الأخرى من خلال أسواق العمل.
الآثار البيئية لتجارة المنتجات الغذائية والزراعية
يساهم توفر الموارد الطبيعية، مثل الأراضي والمياه، في الميزة النسبية في مجال الأغذية والزراعة. وبالنسبة إلى البلدان التي تنخفض فيها الموارد الطبيعية والتي تكون الظروف المناخية فيها غير مواتية للإنتاج الزراعي، تساهم التجارة في الأمن الغذائي والتغذية من حيث كمية الأغذية وتنوعها بمستويات أعلى مما يمكن أن يسمح به الإنتاج المحلي. وعلى الصعيد العالمي، تعزز التجارة والميزة النسبية كفاءة استخدام الموارد الطبيعية. وتساعد التجارة في تخصيص الإنتاج الزراعي للمناطق التي تعتبر فيها كمية المياه والأرض المستخدمة لكل وحدة غذاء أقل نسبيًا. وعلى سبيل المثال، تقدّر إحدى الدراسات أن تجارة المنتجات الغذائية والزراعية يمكن أن تولد ما بين 40 إلى 60 مترًا مكعبًا من مدخرات المياه السنوية للفرد الواحد.
على الصعيد العالمي، يمكن لتجارة المنتجات الغذائية والزراعية أن تعزز كفاءة استخدام الأراضي والمياه ولكنها قد تؤدي أيضًا إلى آثار بيئية سلبية
مع أن الأسواق العالمية المفتوحة للمنتجات الزراعية والغذائية يمكن أن تساعد في تخفيف الضغط على الموارد الطبيعية، إلا أن الإنتاج من أجل التصدير يمكن أن يولّد آثارًا خارجية بيئية سلبية، مثل عمليات سحب المياه العذبة غير المستدامة، والتلوث، وفقدان التنوع البيولوجي، وإزالة الغابات وانبعاثات غازات الدفيئة. وعلى سبيل المثال، شكّل الإنتاج الزراعي للماشية وفول الصويا وزيت النخيل – وجميعها منتجات عليها طلب عالمي مستمر - 40 في المائة من نسبة إزالة الغابات الاستوائية بين عامي 2000 و2010.
تنشأ معظم العوامل الخارجية البيئية المتصلة بالتجارة بسبب الظروف المحلية، وسيتعين استكمال السياسات التجارية بتدابير بيئية محددة للتصدي لها
تنشأ هذه التأثيرات البيئية السلبية في كثير من الأحيان بسبب الظروف المحلية وضعف الأنظمة الخاصة بالبيئة. ويعني ذلك أن السياسات التجارية غير قادرة بمفردها على معالجة العوامل الخارجية البيئية بسهولة. ويمكن لقواعد التجارة المتعددة الأطراف، مثل إطار منظمة التجارة العالمية، إلى جانب الأنظمة الوطنية، معالجة المقايضات بين الأهداف الاقتصادية والبيئية. ويتطور كذلك نطاق الاتفاقات التجارية ليشمل الأحكام البيئية. وبين عامي 1957 و2019، ومن بين 318 اتفاقًا تم إبرامه، تضمّن 131 اتفاقًا حكمًا واحدًا على الأقل من الأحكام المتعلقة بالبيئة، فيما تضمّن 71 اتفاقًا أحكامًا أظهرت التفاعل بين البيئة والزراعة. وتوفر مثل هذه الاتفاقات حوافز للمنتجين لاعتماد ممارسات مستدامة من أجل تحقيق إمكانية الوصول إلى الأسواق والحفاظ عليه.
تراعي قواعد التجارة المتعددة الأطراف واتفاقات التجارة الإقليمية المتزايدة الأحكام المتعلقة بالبيئة، والتي يمكن أن تساعد، عندما تكون ملزِمة قانونًا، في التصدي للتأثيرات البيئية للتجارة
يشير عدد من الدراسات بشكل عام إلى أن الأحكام البيئية في اتفاقات التجارة الإقليمية لها تأثير إيجابي في معالجة العوامل الخارجية البيئية التي تولدها التجارة عندما يعود السبب فيها إلى الظروف المحلية. وتعزز الاتفاقات التجارية الأعمق التقارب في السياسات بين البلدان الموقّعة عليها على صعيد العديد من القضايا، بما في ذلك البيئة. وغالبًا ما تنشئ هذه الاتفاقات آليات محددة لمناقشة تنفيذ الالتزامات المتعلقة بالبيئة والإشراف عليه.
ويمكن للاتفاقات التجارية أن تشجع الشركاء التجاريين على تبني ممارسات مستدامة عندما تكون الأحكام البيئية ملزمة قانونًا وتكون التجارة بين الأطراف الموقّعة مجهزة بمؤسسات تم تطويرها بشكل جيد، مثل إجراءات تسوية النزاعات وعمليات تقييم الأثر البيئي.
السياسات التجارية المتعددة الأطراف والإقليمية من أجل النمو المستدام
منذ بداية الألفية الجديدة، تطورت العولمة بالتوازي مع إضفاء الطابع الإقليمي، حيث تكمّل كل عملية الأخرى. وأدت بيئة السياسات التجارية الحالية في مجال الأغذية والزراعة، كما صاغتها منظمة التجارة العالمية، إلى تثبيط الممارسات غير العادلة، والحد من عدم اليقين، وتسهيل التنسيق بين البلدان. ويُستكمل هذا الإطار المتعدد الأطراف أيضًا بالعديد من اتفاقات التجارة الإقليمية. وساهم تحرير التجارة الإقليمية والمتعددة الأطراف على حد سواء في توسيع نطاق التجارة العالمية.
وصلت المفاوضات التجارية المتعددة الأطراف إلى حائط مسدود، في حين أن اتفاقات التجارة الإقليمية المكثّفة، والتي تشمل بصورة متزايدة الأغذية والزراعة، آخذة في الازدياد
رغم اتفاق البلدان الأعضاء في منظمة التجارة العالمية على إلغاء الدعم للصادرات الزراعية عقب المؤتمر الوزاري العاشر الذي عُقد في نيروبي في عام 2015 وإنشائها لاتفاقية تيسير التجارة التي دخلت حيز النفاذ في فبراير/شباط 2017، من بين أمور أخرى، إلا أن عددًا من المجالات المتعلقة بالزراعة، مثل التعامل مع الاحتفاظ بمخزونات حكومية للأغذية والدعم الزراعي المحلي ساهمت في تعطيل المفاوضات. وفي الوقت ذاته، تضاعف عدد اتفاقات التجارة الإقليمية السارية من أقل من 25 اتفاقًا في عام 1990 إلى أكثر من 350 اتفاقًا في عام 2022. وأثار ذلك مخاوف بشأن ما إذا كان التمييز في السوق العالمية قد تزايد ويؤدي إلى تجزئة التجارة العالمية إلى كتل متنافسة.
تعزز اتفاقات التجارة الإقليمية المشاركة في سلاسل القيمة الإقليمية والنمو، ولكنها قد تستبعد البلدان المنخفضة الدخل
تُنشئ اتفاقات التجارة الإقليمية علاقات تجارية بين الجهات الموقّعة ولكنها قد تؤدي أيضًا إلى تحويل التجارة بعيدًا عن غير الأعضاء. وبالنسبة إلى الجهات الموقّعة عليها، تعمل اتفاقات التجارة الأعمق على تحسين الوصول إلى الأسواق عن طريق التعريفات التفضيلية وتقليل تكاليف التجارة من خلال تقارب الأنظمة المحلية وتنسيق المعايير. ويمكن أن يؤدي ذلك إلى تعزيز تطوير سلاسل القيمة الإقليمية وتحفيز النمو. ومع أن اتفاقات التجارة الإقليمية يمكن أن تولد في المتوسط مكاسب على الصعيد العالمي، إلا أن بعض البلدان قد تخسر. وعلى وجه الخصوص، قد تُترك البلدان المنخفضة الدخل ذات القدرة المحدودة على التفاوض وعلى تنفيذ أحكام تجارية معقدة خارج عملية التكامل التجاري الإقليمي. ويمكن أن يؤدي تحرير التجارة المتعددة الأطراف إلى مكاسب أكبر على الصعيد العالمي، كما أنه يمكن أن يكون أكثر الطرق فعالية من أجل تعزيز الوصول إلى الأسواق والنمو الاقتصادي للجميع.
يمكن أن يؤدي تحرير التجارة المتعددة الأطراف والتعاون المتعدد الأطراف في معالجة العوامل الخارجية البيئية في العالم إلى تحقيق النمو، وضمان الأمن الغذائي والتغذية الأفضل للجميع، وجعل التجارة مجدية لتحقيق التنمية المستدامة
مع أن الميزة النسبية تبدو أكثر ملاءمة على الصعيد المتعدد الأطراف، إلا أنه سيكون من الصعب معالجة المقايضات بين الأهداف الاقتصادية والبيئية بالطريقة نفسها. ويمكن التصدي للعوامل البيئية الخارجية التي تولدها التجارة، عندما تكون محلية الطابع، من خلال سياسات تجارية تكملها الأنظمة على المستوى الوطني أو الإقليمي.
ولن تكون الإجراءات الأحادية أو حتى الإقليمية فعالة عندما تكون هذه العوامل الخارجية عالمية، كما في حال تغيّر المناخ. وسيكون الاتفاق المتعدد الأطراف ضروريًا، ولكن قد يكون من الصعب بلوغ توافق في الآراء بسبب اختلاف وجهات نظر البلدان حول تأثير انبعاثات غازات الدفيئة وكلفتها على المجتمع. غير أنه لا يمكن التصدي للعوامل الخارجية البيئية في العالم بشكل فعال إلا من خلال تعددية الأطراف بالترافق مع قواعد تجارية تساعد على توسيع نطاق السياسات التي تأخذ بعين الاعتبار التكاليف الاجتماعية لهذه العوامل الخارجية.