تحظى القضايا المتعلّقة بالعوامل الخارجية البيئية الناجمة عن تجارة المنتجات الغذائية والزراعية بالاهتمام من منظور التجارة الإقليمية والمتعددة الأطراف على السواء. وتؤدي التدابير غير التعريفية مثل حظر الواردات التي يترتب عنها أثر سلبي على البيئة، أو الأحكام والمعايير المتعلّقة بالبيئة، دورًا رئيسيًا في التصدي لتأثير التجارة على الموارد الطبيعية والتلوّث والتنوع البيولوجي وتغيّر المناخ (انظر الجزء 3).
وتتوقف معظم الآثار البيئية الناجمة عن التجارة على الظروف المحلية، إذ أن التجارة تولّد في الكثير من الأحيان عوامل خارجية بيئية في السياقات غير المنظمة بشكل جيّد. ويمكن أن تكون عوامل خارجية عديدة محلية أو إقليمية، مثل عمليات سحب المياه الجوفية بطريقة غير مستدامة أو تدهور الأراضي أو التلوّث. ولكنّ العوامل الخارجية البيئية التي تطرح التحديات الأكبر، تنتشر على نطاق واسع. فعلى سبيل المثال، يمكن لفقدان التنوع البيولوجي أن يكون منحصرًا في مكان معيّن إلا أن قيمة التنوع البيولوجي والنظم الإيكولوجية تُحتسب على المستوى العالمي. وتمثل انبعاثات غازات الدفيئة عاملاً خارجيًا عالميًا بالفعل. وعلى سبيل المثال، يجري الإنتاج الزراعي أو إزالة الغابات في إقليم معيّن، ولكن آثار تغيّر المناخ ذات الصلة قد تظهر في مكان بعيد عن المكان الذي انبعثت منه غازات الدفيئة في الجو.313، 314 ويتسم مدى انحصار العوامل الخارجية البيئية في مكان معيّن أو انتشارها في جميع أنحاء العالم، بالأهمية في سياق السياسات التجارية.
وفي سياق السياسات التجارية، مثل نظام التجارة المتعددة الأطراف الذي تحدد شكله قواعد منظمة التجارة العالمية وأنظمتها، تتم معالجة العوامل الخارجية البيئية من خلال آلية حل النزاعات أو الأنظمة المحلية التي تؤدي إلى بروز عدد من التدابير غير التعريفية والمعايير التي يشملها اتفاق الحواجز التقنية أمام التجارة (انظر مثلًا الإطار 3-3 والمناقشة الواردة في الجزء 3). وبين عامي 2008 و2019، شهد عدد التدابير غير التعريفية المتعلّقة بالبيئة التي تم الإبلاغ عنها بموجب اتفاق الحواجز التقنية أمام التجارة، زيادة مطردة ومثّل في المتوسط حوالي 15 في المائة من جميع الأنظمة والمعايير الفنية التي تستخدمها الحكومات لتحقيق مجموعة متنوعة من أهداف السياسة العامة، بما في ذلك حماية الصحة أو السلامة أو البيئة. وتشمل الأهداف البيئية التي يتكرر ذكرها أكثر من غيرها، الحد من تلوّث التربة والمياه أو الحفاظ على الطاقة أو صون النباتات والغابات.315
ويسفر عدم تجانس الأنظمة والمعايير بين البلدان عن تكاليف امتثال كبيرة (انظر الجزء 2)، وتهدف اتفاقات التجارة الإقليمية الأعمق إلى تحقيق تقارب بين الأنظمة التي يعتمدها الشركاء التجاريون وإلى مواءمة المعايير من أجل الحد من مثل هذه التكاليف ومعالجة القضايا البيئية في الوقت نفسه (انظر الجزء 3).
اختيار المعايير البيئية
يمثل التصدي بفعالية للآثار البيئية الناجمة عن تجارة المنتجات الغذائية والزراعية، أمرًا صعبًا ذلك أنه قد لا يكون من الممكن معالجة العوامل الخارجية وتحقيق نتيجة فعالة على المستوى العالمي عندما تتمتع البلدان بالاستقلالية في اختيار التدابير غير التعريفية والمعايير البيئية. فتختلف البلدان في تقديرها للعوامل الخارجية وتختار معايير مختلفة، ويمكنها عند المشاركة في المبادلات التجارية أن تقرر الاعتراف بمعايير شركائها التجاريين أو التقيّد بمعاييرها المحلية الخاصة بها.
وعلى سبيل المثال، فإن أي اتفاق متعدد أطراف أو إقليمي يهدف إلى تعزيز التجارة وينص على «الاعتراف المتبادل» بالمعايير بين البلدان – حيث تحدَّد المعايير المحلية بشكل أحادي من جانب البلدان ويعترف كل بلد بأن معايير شركائه التجاريين تحقق الأهداف نفسها – لا يؤدي إلى نتيجة فعالة في ظل التأثيرات غير المباشرة من قبيل التلوّث. فقد تفضّل الحكومات تنفيذ معايير غير صارمة لتعزيز الصادرات وتعظيم رفاه المزارعين لديها. وتنطوي المعايير الأقل صرامة على تدني تكاليف الامتثال، ولكنها لا تحد من التأثيرات غير المباشرة بشكل كاف ولا تأخذ في الحسبان التكاليف الاجتماعية المترتبة عن الآثار البيئية.316
وبالمثل، يمكن «للمعاملة الوطنية» – أي عندما تحدد البلدان معاييرها المحلية بشكل أحادي ولكنها تعامل السلع المستوردة معاملة لا تقل شأنًا عن معاملة السلع المحلية – أن تسفر أيضًا عن نتائج دون المستوى المطلوب. ففي هذه الحالة، قد تحدد الحكومات معايير صارمة جدًا نسبة إلى التكاليف المترتبة عن العامل الخارجي. ويمكن أن يؤدي ذلك إلى حظر الواردات التي لا تمتثل لهذه المعايير وإلى خفض سعر الواردات التي تمتثل للمعايير العليا في حالة كبار المستوردين الذين يتمتعون بقوة سوقية.317، 318
وعلى المستوى العالمي، يمكن التصدي للعوامل الخارجية البيئية بمزيد من الفعالية فقط عندما يتم التفاوض على السياسات التجارية، وبخاصة المعايير، بين البلدان.319 وتسفر المحاولات الرامية إلى التصدي للعوامل الخارجية البيئية من طرف واحد عن تنظيم دون المستوى المطلوب أو عن تنظيم مفرط مقارنة بما هو فعال من الناحية الاقتصادية. وفي الحالة الأولى، يفرط المستهلكون في استهلاك السلع التي تولّد عوامل خارجية بيئية. أما في الحالة الثانية، فسوف تتم معالجة العامل الخارجي ولكن على حساب المصدّرين الذين يمتثلون للمعايير. ويعني ذلك أنه بوجود عوامل خارجية بيئية في التجارة، يتسم التنسيق عن كثب بين البلدان في ما يتعلّق بالسياسات التجارية وتقارب الأنظمة ومواءمة المعايير وصرامتها، بأهمية بالغة لتحقيق نتائج مثالية.
ويتمثل سؤال حاسم هنا في ما إذا كان من الممكن تحقيق هذا التكامل التجاري العميق من أجل التصدي للعوامل الخارجية البيئية، على المستوى المتعدد الأطراف أو الإقليمي أو على كلا المستويين معًا. وتشير إحدى الدراسات التي تحلل خيار المعايير في ظل وجود عامل خارجي ضمن إطار الميزة النسبية، إلى أن الفوارق في الإنتاجية النسبية تشكل سببًا ضروريًا ولكن غير كاف للتجارة عندما تقدّر البلدان العامل الخارجي البيئي بطريقة مختلفة، وعندما تختلف معاييرها بالتالي من حيث الصرامة.320 وفي هذا السياق، تلجأ البلدان إلى الاستيراد مستفيدة من ميزتها النسبية ومراعية المعايير المختلفة، فقط إذا عوّضت المكاسب المحققة من التجارة عن الاختلافات في تقدير العامل الخارجي. وفي هذه الحالة، يحقق الاتفاق توازنًا بين المنافع الاقتصادية التي تعود بها التجارة والنتائج البيئية، ويكون من الممكن مواءمة المعايير البيئية من خلال تقديم تنازلات متبادلة في مجال الإجراءات الحدودية وصرامة المعايير.
ولكن بوجود عامل خارجي عالمي وعندما تختلف تقديرات العامل الخارجي البيئي اختلافًا كبيرًا بين العديد من البلدان، يمكن أن يسفر اتفاق متعدد الأطراف بشأن مواءمة المعايير عن اعتماد معايير غير صارمة وتحقيق مكاسب بيئية ضئيلة. ومن المرجح أكثر أن يكون مثل هذا الاتفاق قابلًا للتنفيذ بالنسبة إلى عدد أصغر من البلدان ذات التوجّه المماثل وحيث تكون تقديرات العامل الخارجي البيئي أكثر تشابهًا في ما بينها. ومع أن مبدأ الميزة النسبية له تأثير أكبر على المستوى المتعدد الأطراف، إلا أنه يمكن لوجود عوامل خارجية واختيار المعايير للتصدي لها أن يفسّر ظهور الاتفاقات التجارية الأعمق التي تهدف إلى تحقيق التقارب التنظيمي ومواءمة المعايير.
وتتسم الاختلافات بين البلدان في تقدير عوامل عديدة يمكنها أن تؤثر على البيئة وعلى سلامة الأغذية أو الصحة أو رفاه الحيوان أو حقوق العمال، بالأهمية في سوق يتمحور التركيز فيها على التدابير غير التعريفية والتكامل التجاري العميق. وتميل اتفاقات التجارة الإقليمية العميقة إلى أن تكون موقّعة من جانب بلدان لديها تفضيلات متقاربة في ما يتعلّق بقضايا مثل التلوّث أو رفاه العمال. ومع أن الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة لا تغطي أية قضايا بيئية، يتضمن اتفاق شراكة المحيط الهادئ الشاملة والتدريجية فصلًا كاملًا مخصصًا للبيئة ولا يتم تحديده بشكل صارم من الناحية الجغرافية. وبهذه الطريقة، يصبح التعاون الإقليمي الذي يتوقف على الظروف الجغرافية، منفتحًا على بلدان أخرى ذات تفكير مماثل وقد تكون موجودة في أقاليم أخرى، الأمر الذي يؤدي إلى تشكيل كتل تجارية كبيرة بين الأقاليم ولكن لديها خصائص اجتماعية ومستويات إنمائية مماثلة أو متقاربة.
تغيّر المناخ: التصدي لعامل خارجي عالمي من خلال السياسات التجارية
تشير عمليات الاستشراف إلى أنه يجب على الإنتاج الغذائي والزراعي أن يزيد بنسبة 50 في المائة بين عامي 2012 و2050 لتوفير الأغذية لعدد متنام من السكان الذين يزدادون ثراء بشكل تدريجي.321 وقد تؤدي هذه الزيادة في الإنتاج إلى تزايد انبعاثات غازات الدفيئة العالمية ما لم تصبح النظم الزراعية والغذائية كفوءة من حيث الانبعاثات وتولّد انبعاثات أقل لكل وحدة من الإنتاج. ويمكن لتجارة المنتجات الغذائية والزراعية أن تؤدي دورًا هامًا في التأقلم مع آثار تغير المناخ (التكيّف) وفي الحد من انبعاثات غازات الدفيئة في الزراعة (التخفيف من الآثار).
التجارة بوصفها آلية للتكيّف
من المتوقع أن يكون تأثير تغيّر المناخ على الزراعة متفاوتًا بين الأقاليم. فسوف تعاني مناطق خطوط العرض المنخفضة مثل الشرق الأدنى وشمال أفريقيا وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وجنوب آسيا، من التأثيرات السلبية لتغير المناخ في حين أنه من المتوقع أن تشهد مناطق خطوط العرض العليا مثل أمريكا الشمالية وأجزاء من أمريكا الجنوبية وآسيا الوسطى وأوروبا الشرقية آثارًا إيجابية إلى حد كبير على الإنتاج الزراعي.322، 323، 324 ويمكن النظر إلى التجارة على أنها استراتيجية للتكيّف تهدف إلى الحد من آثار تغيّر المناخ على الأسواق الغذائية والزراعية العالمية، كما يمكنها أن تشكل سبيلًا مهمًا لضمان الأمن الغذائي والتغذية. وسيلزم أن تأتي الواردات الغذائية إلى البلدان (النامية في غالب الأحيان) المتضررة بصورة أكبر نسبيًا من البلدان (المتقدمة في غالب الأحيان) المتأثرة بصورة أقل نسبيًا.
وبالفعل، تتوقع معظم الدراسات التي تشمل نماذج اقتصادية وبيولوجية فيزيائية دورًا أكبر للتجارة كنتيجة لتغيّر المناخ على المستوى العالمي.325، 326، 327، 328، 329، 330، 331 وفي حين أن جزءًا كبيرًا من التكيّف مع تغيّر المناخ سيأتي من التعديلات في الإنتاج، إلا أن إمكانية تغيير أنماط التزوّد التي توفّرها التجارة لا تقلّ أهمية عن التغيّرات في مزيج المحاصيل في تحديد قدرة بلد معيّن على التأقلم مع الآثار السلبية لارتفاع درجات الحرارة.332 وبالفعل، يسمح تزايد الروابط التجارية بين البلدان بتنويع أنماط اختيار المصادر، الأمر الذي يجعل الأسواق العالمية للمنتجات الغذائية والزراعية أكثر قدرة على الصمود في وجه الصدمات المناخية والآثار السلبية لارتفاع درجات الحرارة على الإنتاج الزراعي (انظر الجزء 1).
ولكن يمكن أن يكون دور التجارة في التكيّف مع تغيّر المناخ وضمان الأمن الغذائي مقيّدًا بالسياسات والتكاليف التجارية. وتشير دراسات عديدة إلى أنه يمكن للتجارة الحرّة أن تعوّض عن جزء من الخسائر في الرفاه الناجمة عن تغيّر المناخ.333، 334، 335 ويمكن للأسواق المنفتحة أن تساهم أيضًا في تحقيق الأمن الغذائي، لا سيما في الأقاليم المتضررة التي تعاني بالفعل من ارتفاع معدل انتشار النقص التغذوي. ومن شأن خفض التكاليف التجارية المرتفعة جدًا في البلدان المنخفضة الدخل حول العالم، خاصة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، أن يعزز دور التجارة في التكيّف مع تغيّر المناخ بشكل كبير (انظر الجزء 2).
وفي ما يتعلّق بالبلدان المنخفضة الدخل التي تلبي جزءًا صغيرًا من احتياجات استهلاك الأغذية فيها عن طريق التجارة، سوف يؤثر تغيّر المناخ وارتفاع متوسط درجات الحرارة بشكل سلبي على الإنتاجية في الزراعة أكثر من قطاعات أخرى من الاقتصاد. ولن تسمح الواردات الغذائية بالمحافظة على الأمن الغذائي فحسب، بل ستيسّر أيضًا حدوث تحوّل هيكلي مع انتقال اليد العاملة إلى القطاعات غير الزراعية الأقل تأثرًا نسبيًا بتغيّر المناخ. ولكن، عندما يكون التكامل التجاري محدودًا، يمكن للاحتياجات إلى أغذية الكفاف في العديد من البلدان النامية أن تدفع التخصص باتجاه الزراعة وليس بعيدًا عنها، الأمر الذي يؤدي إلى تفاقم الخسائر الناجمة عن تغيّر المناخ.336
دور التجارة في الحد من آثار تغيّر المناخ
يُعدّ تغيّر المناخ عاملاً خارجيًا بيئيًا عالميًا بحق. وتنتشر آثاره بطريقة غير قابلة للتجزئة على نطاق كوكب الأرض قاطبة؛ كما أنه يؤثر في أنشطة اقتصادية عديدة، بما في ذلك الزراعة المسؤولة عن نسبة تتراوح بين 21 و37 في المائة من جميع انبعاثات غازات الدفيئة؛ ولا تأخذ الأسواق كلفته في الحسبان؛ ولا يمكن تقسيم المنافع التي يعود بها التخفيف من آثاره ولا يمكن أن يطالب بها أي بلد بمفرده.337، 338
ويمكن لمبادرات عدة في مجال السياسات أن تساعد على تحسين كفاءة الانبعاثات وخفض انبعاثات غازات الدفيئة لكل وحدة إنتاج. وعلى سبيل المثال، يشكل فرض ضريبة على انبعاثات غازات الدفيئة سبيلًا لدفع المجتمع الذي ينتجها إلى تحمّل كلفتها داخليًا.غغ غير أنه من الصعب على الحكومات الوطنية أن تفرض من طرف واحد ضريبة على الكربون بالنسبة إلى المنتجات الغذائية والزراعية. فإذا فرض بلد معيّن هذه الضريبة على المنتجات الغذائية والزراعية، سترتفع الأسعار المحلية ما يؤدي إلى إضعاف الطلب في غياب التجارة، وبالتالي إلى تراجع الإنتاج وانخفاض الانبعاثات. وعلى المدى الطويل، تشكل الضريبة حافزًا لكي يعتمد المزارعون التكنولوجيات والممارسات الزراعية الذكية مناخيًا التي تحد من البصمة الكربونية وتعزز التخفيف من آثار تغيّر المناخ.ظظ
ومع التجارة، يمكن لاتخاذ إجراء من طرف واحد لفرض ضريبة على الكربون أن يضع البلد الذي يسعى إلى تخفيف الآثار في وضع تنافسي مجحف. وتجعل الضريبة على الكربون الصادرات الآتية من البلد الذي يسعى إلى تخفيف الآثار، أغلى ثمنًا في الأسواق العالمية. ويؤدي ذلك أيضًا إلى استبدال المنتجات المحلية ذات البصمة الكربونية الأدنى بالواردات الأرخص ثمنًا وذات البصمة الكربونية الأعلى والقادمة من بلدان لا تطبق تدابير مماثلة للحد من الانبعاثات. ومع زيادة الواردات ذات البصمة الكربونية الأعلى، ستتسرّب الانبعاثات مجددًا إلى البلد الذي يسعى إلى تخفيف الآثار وستقوّض التجارة الدولية فعالية الضريبة على الكربون.أأأ
ويمكن لسياسات تجارية محددة أن تساعد على معالجة تسرّب الانبعاثات. إذ يمكن أن تُدخل البلدان تعديلات على الضريبة الحدودية إلى جانب اعتماد الضريبة على الكربون لكي يطبق معدل الضريبة نفسه على البصمة الكربونية للمنتجات المحلية وعلى المنتجات المستوردة. وفي هذه الحالة، قد تُفرض على موردي المنتجات المنخفضة الانبعاثات ضريبة متدنية، فيصبح هؤلاء الموردون قادرين على منافسة المنتجات المحلية. وفي المقابل، تفرض ضريبة أعلى على موردي المنتجات العالية الانبعاثات، وهو ما قد يجعلهم أقل قدرة على المنافسة. وبهذه الطريقة، لا تتأثر التجارة بالميزة النسبية فقط، بل بالكفاءة النسبية للانبعاثات أيضًا.
وسيواجه تصميم الضريبة الكربونية على المنتجات الغذائية والزراعية وتنفيذها، تحديات عديدة. فسوف يلزم إجراء تقييم كامل للتكاليف التي سيتكبدها المجتمع نتيجة انبعاث غازات الدفيئة أثناء إنتاج المنتجات الزراعية والغذائية – أي البصمة الكربونية. ويجب أن تحدَّد البصمات الكربونية من الناحية الكمية وأن تشمل الانبعاثات الناجمة عن عمليات الإنتاج الزراعي والانبعاثات المرتبطة بنقل المنتجات وتجهيزها وتخزينها وتوصيلها إلى المستهلكين.339 ويشمل الإنتاج الزراعي مصادر عديدة مختلفة للانبعاثات التي يجب تغطيتها والتي غالبًا ما تكون مبعثرة، ورصدها صعب، ومتباينة بحسب الموقع.340 وعلى سبيل المثال، يُعدّ استخدام الأسمدة مصدرًا رئيسيًا لانبعاثات أكسيد النتروز، إلا أن قياس هذه الانبعاثات الآتية من مساحة معيّنة من الأراضي يتوقف على عوامل أخرى غير كمية الأسمدة المستخدمة والتي يكون العديد منها خاصًا بالموقع (مثل ممارسات الإدارة، وأنواع التربة، والطقس).
وحتى لو تم التصدي لهذه التحديات الفنية، سوف يصعب عمليًا التوصل إلى توافق في الآراء بين جميع البلدان بشأن آلية خاصة بالضريبة على الكربون في قطاع الأغذية والزراعة (انظر القسم السابق). وستكون هناك حاجة إلى الاتفاق على آليات احتساب الكربون وعلى البصمة الكربونية لجميع المنتجات الغذائية والزراعية المنتجة حول العالم. وسيلزم أيضًا الاتفاق على سعر الكربون من أجل تحديد قيمة الضريبة وتجنّب النزاعات التجارية الدولية.
ولن يكون من الممكن أيضًا اعتماد آلية أصغر خاصة بالضريبة على الكربون في سياق اتفاقات التجارة الإقليمية المبرمة بين بلدان تجري تقديرات مماثلة لآثار تغيّر المناخ وتكون لديها تفضيلات متشابهة في ما يتعلّق باحتساب الكربون. ومع أن الواردات من البلدان غير الموقّعة على هذه الاتفاقات إلى مثل هذه الكتلة التجارية المناخية ستكون خاضعة لضريبة الكربون، إلا أن الصادرات من البلدان الموقّعة ستكون أغلى ثمنًا في السوق العالمية، الأمر الذي يؤدي إلى خسائر في الأرباح. ولقد حلل عدد قليل من الدراسات إمكانية إبرام مثل هذه الاتفاقات الإقليمية بشأن آليات الضريبة على الكربون والتجارة بين بلدان من مختلف الأحجام وتتبع أنماطًا تجارية مختلفة وتعتمد مجموعة من الأدوات المتكاملة في مجال السياسات التجارية.341
ويُنظر إلى النوادي المناخية على أنها نهج تدريجي من القاعدة إلى القمة لتوليد استجابة عالمية لتغيّر المناخ مقارنة بنهج من القمة إلى القاعدة من قبيل بروتوكول كيوتو الذي يحدد أهدافًا ملزمة لخفض الانبعاثات في عدد من البلدان المتقدمة والاقتصادات التي تمرّ بمرحلة انتقالية ولكن من دون أن ينجح في تشكيل نظام دولي متجانس وملزم للانبعاثات.ببب ويعتبر استقرار هذه النوادي المناخية من حيث العضوية والحجم أمرًا حاسمًا أيضًا، فيما تشير بعض الدراسات إلى أن هذه النوادي تميل إلى أن تكون صغيرة وهشة.342 ومع أنه يتعيّن إجراء مزيد من البحوث بشأن الروابط بين السياسات الرامية إلى معالجة التأثيرات العالمية غير المباشرة والتجارة، ستكون الاتفاقات الدولية ضرورية لتقوم التجارة بتوسيع نطاق سياسات التخفيف من آثار تغيّر المناخ.