التجارة جزء لا يتجزأ من نظمنا الغذائية كونها تؤدي الوظيفة الأساسية المتمثلة في نقل الأغذية من المناطق ذات الفائض إلى المناطق التي تعاني من نقص، ما يساهم بالنتيجة في تحقيق الأمن الغذائي على مستوى العالم. وتربط الأسواق العالمية للأغذية بين الناس والبلدان في أنحاء العالم كافة، وتساهم في الاستخدام الفعال للموارد الطبيعية في جميع أصقاع العالم، وتسهّل إمداد الغذاء الكافي والآمن والمتنوع، وتولّد الدخل للمزارعين والعاملين في قطاعي الأغذية والزراعة. والتجارة متأصلة في الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للتنمية المستدامة. وهي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالنمو الاقتصادي وتتفاعل مع الناس وتقترن بالبيئة.
ومنذ مطلع القرن الحادي والعشرين، شهدت العولمة والتجارة زيادة كبيرة. وزادت تجارة المنتجات الغذائية والزراعية بمقدار خمسة أضعاف تقريبًا، إذ ارتفعت من 400 مليار دولار أمريكي في عام 2000 إلى 1.9 تريليون دولار أمريكي في عام 2022. وشكلت تجارة المنتجات الغذائية حوالي 85 في المائة من إجمالي تجارة المنتجات الغذائية والزراعية. وزادت الطاقة التي تحملها بأكثر من الضعف بين عامي 2000 و2021، لتصل إلى ما يقرب من 000 5 تريليون كيلو سعرات حرارية في عام 2021. وبعدما جرى تعديل تجارة المنتجات الغذائية بمقتضى النمو السكاني العالمي، ارتفعت من 930 كيلو سعرات حرارية للفرد الواحد في اليوم في عام 2000 إلى 640 1 كيلو سعرات حرارية للفرد الواحد في اليوم في عام 2021.
وتأثر هذا التوسّع في التجارة العالمية للمواد الغذائية بإنشاء منظمة التجارة العالمية في عام 1995. وشكلت قواعد التجارة المتعددة الأطراف الصادرة عن منظمة التجارة العالمية بيئة تجارية تتسم بقدر أكبر من الحرية والعدالة وإمكانية التنبؤ، ما عزز تجارة المنتجات الغذائية والزراعية والنمو الاقتصادي إلى جانب عدد متزايد من اتفاقات التجارة الإقليمية.
ومع ذلك، أثارت العولمة السريعة لأسواق الأغذية شواغل إزاء التأثيرات المحتملة لزيادة تجارة المنتجات الغذائية تدريجيًا على المجتمعات. ويُعتبر أن إنتاج الأغذية لأغراض التصدير يساهم في استنفاد الموارد الطبيعية. ويمكن أن تؤدي التجارة إلى توسيع أوجه عدم المساواة، ولا سيما في البلدان التي يتألف فيها القطاع الزراعي من عدد كبير من المزارعين الذين يفتقرون إلى الموارد والعاجزين عن المنافسة عالميًا. ويمكن أن يفضيَ التعرّض المتزايد للأسواق الغذائية العالمية إلى زيادة توافر الأغذية الغنية بالطاقة ذات القيمة الغذائية المنخفضة مقارنة بالأغذية المغذية، ما قد يساهم في اتباع أنماط غذائية غير صحية أو رديئة، ويؤدي بدوره إلى تردي نتائج التغذية.
وتستكشف نسخة عام 2024 من تقرير حالة أسواق السلع الزراعية الروابط المعقدة بين تجارة المنتجات الغذائية والتغذية وتولّد أدلة لتحديد كيفية تأثير التجارة على الأنماط الغذائية ونتائج التغذية. ويدرس التقرير تقاطع السياسات التجارية والتدابير الخاصة بالتغذية ويتيح لصانعي السياسات فهم كيفية معالجة أهداف التغذية في ظلّ المشهد المتغيّر للنظم الغذائية العالمية.
التنمية والتحوّل التغذوي
من شأن وضع الترابط بين التجارة والتغذية في سياق التنمية الأشمل أن يوضح كيف تتغيّر الأنماط الغذائية بسبب الديناميكيات الاقتصادية والاجتماعية والديمغرافية. وتتطور الاقتصادات من خلال عملية التحوّل الهيكلي التي يمكن فيها أن تؤدي الزراعة دورًا رئيسيًا. ويتغذى النمو الاقتصادي بواسطة إعادة توزيع الأنشطة الاقتصادية من الزراعة إلى قطاعات أخرى أكثر إنتاجية مثل التصنيع والخدمات. ويستلزم التحوّل الهيكلي للاقتصادات ارتفاع المداخيل والتوسّع الحضري والتكامل الأعمق في الأسواق العالمية وصعود الصناعة والخدمات الحديثة وتغييرات نمط الحياة.
ويترابط نمو الدخل والتوسّع الحضري والعولمة والتغيّرات في التوظيف على طول مسار التنمية، وتحدث في وقت واحد وترسخ بعضها البعض. وتؤثر هذه العوامل كلها على استهلاك الأغذية وتركيبة الأنماط الغذائية، ما يؤدي إلى عملية تحوّل تغذوي.
يشكل نمو الدخل دافعًا رئيسيًا للتحوّل التغذوي. ومع ارتفاع المداخيل، تتحوّل الأنماط الغذائية من كونها تتألف في معظمها من مواد غذائية أساسية إلى أن تصبح أكثر تنوعًا مع استهلاك الناس مزيدًا من اللحوم والأسماك والحليب ومنتجات الألبان والبيض والفاكهة والخضار. وإضافة إلى التحوّل نحو أنماط غذائية أكثر تنوعًا، يزداد استهلاك الأغذية المجهَّزة والأغذية العالية التجهيز والغنية بالدهون و/أو السكريات و/أو الملح، ما يساهم في انتشار الوزن الزائد والسمنة.
وفي الوقت نفسه، فيما يشهد التوسّع الحضري تقدمًا، يعمل المزيد من النساء والرجال خارج الأسرة المعيشية ويقضون مزيدًا من الوقت في التنقل إلى العمل ذهابًا وإيابًا. ويمكن أن يؤثر هذا الأمر على إعداد الطعام داخل الأسر المعيشية، ما يؤدي إلى شراء الأغذية المعدَّة مسبقًا أو الأغذية الجاهزة للاستهلاك وإلى تناول المزيد من الأغذية خارج المنزل. ومنذ ثمانينات القرن العشرين، يشكّل تحوّل صناعة تجهيز الأغذية وقطاع تجارة المنتجات الغذائية بالتجزئة عاملًا رئيسيًا في تيسير التحوّل التغذوي في البلدان النامية والاقتصادات الناشئة.
ينعكس التحوّل التغذوي في انخفاض معدل انتشار النقص التغذوي والتقزّم لدى الأطفال دون سن الخامسة وفي الاتجاه التصاعدي في معدل انتشار الوزن الزائد والسمنة.
وانخفض معدل انتشار النقص التغذوي في العالم بشكل ملحوظ من 12.7 في المائة إلى 9.2 في المائة بين عامي 2000 و2022. وفي الفترة نفسها، ارتفع معدل انتشار السمنة لدى السكان البالغين من 8.7 في المائة في عام 2000 إلى 15.8 في المائة في عام 2022 على مستوى العالم. وفي بعض البلدان المرتفعة والمتوسطة الدخل، يعاني أكثر من ثلث السكان البالغين من السمنة. وتتزايد حالات الوزن الزائد والسمنة بسرعة في البلدان التي لم تتمكن بعد من القضاء على مختلف أشكال سوء التغذية، ما يفضي إلى ظهور أعباء متعددة ناتجة من سوء التغذية.
تأثيرات التجارة على التغذية
الروابط بين التجارة والأنماط الغذائية ونتائج التغذية الناجمة عنها معقدة. ويمكن أن تؤثر التجارة على التغذية من خلال الكثير من المسارات المباشرة وغير المباشرة والآليات المعقدة.
والتجارة عامل مسرّع للتحوّل التغذوي. ويمكن أن تكون آثارها على توافر الأغذية والأنماط الغذائية ونتائج التغذية الناجمة عنها غير متجانسة على نطاق واسع بين البلدان والفئات السكانية والأفراد.
ويمكن أن تختلف آثار التجارة في البلدان في الاتجاه أو الحجم على حد سواء، وذلك اعتمادًا على موقف البلد بشأن مسار التنمية، وحجم وبنية اقتصاده وقطاعه الزراعي، ودخل الفرد، والخصائص الديمغرافية، والبيئة السياسية الوطنية. وبالإضافة إلى ذلك، تجعل الطبيعة المتعددة الأسباب لجميع أشكال سوء التغذية العلاقة بين التجارة ونتائج التغذية غامضة وصعبة لتحديدها وقياسها تجريبيًا. وعلى سبيل المثال، تشير تحليلات إلى أن الانفتاح على التجارة يقلّص التقزّم لدى الأطفال دون سن الخامسة في جميع مستويات التنمية. ويبدو أن آثار التجارة على الوزن الزائد والسمنة ترتبط ارتباطًا كبيرًا بالسياق. وفي البلدان التي تعتمد على الاستيراد وتتمتع بقدرة محدودة على الإنتاج المحلي للمواد الغذائية والزراعية، يمكن أن ترتبط تجارة المنتجات الغذائية بتزايد انتشار السمنة.
ويمكن أن تؤثر التجارة مباشرةً على التغذية من خلال آثارها على توافر الأغذية وتنوعها وأسعارها. وتتمثل القنوات غير المباشرة التي تؤثر فيها التجارة على التغذية من خلال آثارها على الاقتصاد الأوسع نطاقًا.
ويتيح الانفتاح على تجارة المنتجات الغذائية استيراد مزيد من الأغذية، ويزيد بالتالي توافر الأغذية لأغراض الاستهلاك في بلد معين. ويحفز هذا الأمر النمو الاقتصادي ويسرّع عملية التحوّل الهيكلي لأن واردات المنتجات الغذائية للقوة العاملة التي كانت مقيّدة بدايةً بالزراعة تسمح بالتحرر والهجرة إلى قطاعات غير زراعية منتجة بقدر أكبر.
آثار التجارة على تنوع الإمدادات الغذائية
الموارد الطبيعية اللازمة لإنتاج الأغذية، مثل الأراضي والمياه، موزعة بشكل غير متساوٍ بين البلدان فيما تختلف الظروف المناخية اختلافًا كبيرًا. ولا يمكن أن تنتج بعض البلدان إلّا مجموعة صغيرة من المنتجات، في حين تمتلك بلدان أخرى موارد طبيعية وفيرة وتنتج مجموعة كبيرة ومتنوعة من الأغذية. فعلى سبيل المثال، أنتجت الصين، وهي إحدى أكبر بلدان العالم من حيث المساحة، حوالي 320 منتجًا مختلفًا في عام 2020، مقارنة بكيريباس، وهي دولة جزرية صغيرة نامية لم تُنتج سوى 15 منتجًا غذائيًا بريًا مختلفًا.
ومن خلال المشاركة في الأسواق العالمية للأغذية، ستصدِّر معظم بلدان العالم الأغذية التي يمكن إنتاجها بوفرة وستستورد الأغذية الممكن إنتاجها بكفاءة أكبر في بلدان أخرى. وعلى المستوى القطري، تزيد التجارة التنوع العام للأغذية المتاحة على مدار السنة. وتحقق البلدان الصغيرة التي تواجه قيودًا كبيرة مرتبطة بالموارد الزراعية المناخية والموارد الطبيعية في مجال إنتاج الأغذية مستويات عالية من التنوع بواسطة التجارة. وبما أن كلّ بلد لا يملك صناعة تجهيز غذائية متطورة للغاية، يلاحظ وجود تأثيرات تجارية مماثلة للتنوع في الأغذية المجهَّزة.
وفي المتوسط، تزيد التجارة تنوع الأغذية المتاحة للاستهلاك بنحو الضعف. وفي الوقت نفسه، تستورد البلدان ما يقرب من ثلاث مرات مما تنتجه من الأغذية المجهَّزة والأغذية العالية التجهيز.
ويعزز الانفتاح على التجارة التخصص في إنتاج بعض الأغذية التي يمكن إنتاجها بتكاليف أقل نسبيًا، بسبب ثروات الموارد الطبيعية وهيكل القطاع الزراعي، ما يوطّد القدرة التنافسية في الأسواق العالمية للأغذية. ويمكن أن تحقق البلدان المستوردة الصافية تنوعًا أكبر في الإمدادات الغذائية مقارنة بالبلدان الموجهة نحو التصدير التي شهدت نموًا سريعًا في صادراتها الزراعية خلال العقود الأخيرة.
التجارة والفجوة في المغذيات
على الصعيد العالمي، يتيح الإنتاج الحالي للأغذية إمدادات كافية من معظم المغذّيات. ومع ذلك، لا تستطيع بلدان كثيرة إنتاج مجموعة واسعة من الأغذية بكميات كافية لتلبية مستلزمات سكانها بشأن متوسط المغذّيات اللازمة، ولوحظ وجود فجوات في إمدادات المغذّيات بالنسبة إلى عدد من المغذّيات الدقيقة في بلدان كثيرة، مثل، الفيتامين A والكالسيوم والزنك. ويمكن أن تكون التجارة مساهمًا مهمًا في سدّ فجوات إمدادات المغذّيات. والواردات الغذائية أساسية لبلدان كثيرة من أجل تلبية الاحتياجات الغذائية لسكانها سعيًا إلى الحفاظ على صحة جميع الناس ورفاههم الغذائي. وفي ظل زيادة تجارة المنتجات الغذائية، هناك ارتفاع مماثل في تجارة المغذّيات.
وبين عامي 2010 و2020، ساعد اتساع التجارة في زيادة متوسط إمداد الفرد من المغذّيات الدقيقة في مختلف البلدان.
وعلى سبيل المثال، خلال هذه الفترة، زادت تجارة نصيب الفرد الواحد من الفيتامينات B والريبوفلافين والثيامين ومعدني الكالسيوم والزنك بنحو 40 في المائة. وتتأثر كفاية إمدادات المغذّيات بعوامل كثيرة من قبيل ثروات الموارد الطبيعية والمناخ والكثافة السكانية. ومع أن كفاية إمدادات المغذّيات يمكن أن تكون مرتفعة في البلدان الأقل تكاملًا نسبيًا في الأسواق العالمية، فهي دائمًا مرتفعة في المستويات العليا من الانفتاح التجاري.
تأثيرات التجارة على أسعار المواد الغذائية
تشكل أسعار المواد الغذائية مسارًا مهمًا تؤثر من خلاله التجارة على الأنماط الغذائية وعلى التغذية في نهاية المطاف. إذ يمكن للواردات داخل بلد معين أن تزيد من إتاحة المواد الغذائية وأن تخفّض أسعار المواد الغذائية المحلية. ويمكن أن يؤدي هذا الأمر إلى تحقيق مكاسب للمستهلكين، الذين تتحسّن قدرتهم على الحصول على مواد غذائية أكثر تنوعًا.
ويمكن أن يؤثر الانفتاح التجاري على الأسعار النسبية لمختلف المواد الغذائية، التي يمكن أن تؤثر بدورها على استهلاك الأسر المعيشية للمواد الغذائية وأنماطها الغذائية، غير أن هذا التأثير سيعتمد على كثافة التجارة. فالأغذية التي تُنتَج وتُنقل بكميات كبيرة ويمكن تخزينها لفترات زمنية طويلة، مثل المواد الغذائية الأساسية، تشهد تجارة مكثفة أكثر من الأغذية التي تستلزم موارد إضافية للنقل على غرار الفاكهة والخضار.
ويمكن أن تساعد التجارة في تضييق الفوارق بين أسعار المواد الغذائية المماثلة في البلدان، رهنًا بكثافة التجارة بهذه المواد الغذائية. وفي حين أنّ التجارة تُحْدِث أثرًا كبيرًا على أسعار المواد الغذائية الأساسية، فتأثيرها على أسعار الفاكهة والخضار ضئيل ويعتمد على مستويات دخل البلدان.
وفي الواقع، حوالي 50 في المائة من أرخص المواد الغذائية المدرجة في مؤشر منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة للكلفة والقدرة على تحمّل تكاليف نمط غذائي صحي تميل إلى أن تكون محلية المصدر ولا يتم الاتجار بها على نحو مكثف؛ وبالنتيجة، قد يكون تأثير التجارة المباشر على أسعارها محدودًا. ومع ذلك، لا يبدو أن السياسات التجارية مثل التعريفات الجمركية على الواردات تُحدث أثرًا غير متناسب على المواد الغذائية المختلفة.
وفي المتوسط، ترتبط التعريفات الجمركية الأدنى على الواردات بانخفاض أسعار المواد الغذائية، سواء أكانت هذه الأغذية مدرجة في سلة النمط الغذائي الصحي أم لا.
ويمكن أن تؤدي التعريفات الجمركية الأدنى على الواردات في جميع البلدان، في المتوسط، إلى انخفاض مستوى أسعار المواد الغذائية وتحسين الحصول على الأغذية. ولا تنجم هذه العلاقة عن انخفاض أسعار الأغذية ذات الكثافة العالية من حيث الطاقة والقيمة الغذائية الدنيا فحسب، بل أيضًا عن جميع الأغذية.
هل تساهم التجارة في انتشار السمنة؟
طوال العقود الماضية، كان هناك تركيز متزايد على السمنة في الإرشادات العالمية والسياسات الوطنية في بلدان كثيرة، مع مراعاة العوامل السياسية والاقتصادية والثقافية والبدنية التي تعزز البيئات المسببة للسمنة. ويشير خبراء التغذية إلى وجود علاقة إيجابية بين الاستهلاك المرتفع للأغذية العالية التجهيز ذات الكثافة العالية من الطاقة، وفي بعض الحالات، بين محتوى المواد المغذية المنخفض والسمنة. ويمكن أن تحتوي الأغذية العالية التجهيز على كميات كبيرة من السكريات الحرة والدهون المشبّعة، التي يمكن أن تساهم في متناول عالٍ من الطاقة.
وتعتمد آثار الدخل على الطلب على الواردات الغذائية على نطاق التجهيز. وتستجيب واردات الأغذية المجهّزة والأغذية العالية التجهيز بشدة لتغيّرات الدخل مقارنة بالأغذية غير المجهَّزَة والمجهَّزَة بالحد الأدنى.
وتؤدي زيادة الدخل بنسبة 10 في المائة إلى زيادة بنسبة 11 في المائة في الطلب على واردات الأغذية العالية التجهيز وزيادة بنسبة 7 في المائة في الطلب على واردات الأغذية غير المجهَّزَة والمجهَّزَة بالحد الأدنى.
ويتماشى هذا الأمر مع مفهوم التحوّل التغذوي، إذ يمكن أن تؤدي الزيادات في الدخل إلى زيادة استهلاك الأغذية العالية التجهيز، بما في ذلك الأغذية الغنية بالدهون و/أو السكريات و/أو الملح.
ومع أن حصة الأغذية العالية التجهيز في إجمالي السعرات الحرارية المتاجَر بها عالميًا بلغت 7 في المائة في عام 2021، كانت هذه الحصة في إقليم أوسيانيا الذي يضم دول الجزر الصغيرة النامية في المحيط الهادئ ذات المستويات العالية من السمنة، أعلى بكثير بنسبة 23 في المائة. وبالنسبة إلى هذه الجزر، يفضي موقعها الجغرافي إلى ارتفاع تكاليف التجارة، ما يقيّد التجارة خاصة بالنسبة إلى الأغذية الطازجة والقابلة للتلف، والتي تكون كلفة نقلها أعلى من الأغذية الأخرى.
ومن شأن النقاش عما إذا كانت التجارة تعزز توافر الأغذية العالية التجهيز، ما يساهم في انتشار السمنة في جزر المحيط الهادئ والأقاليم الأخرى، أن يركز أيضًا على دور تحرير التجارة واتفاقات التجارة الإقليمية. وتتضمن اتفاقات التجارة الإقليمية الحديثة والعميقة أحكامًا للتعاون الأعمق في التنظيم والمعايير بغية تعزيز التجارة بين الجهات الموقِّعة عليها، وهي تتوقع توحيد تدابير الصحة والصحة النباتية والحواجز التقنية أمام التجارة أو النص على الاعتراف المتبادل بالمعايير المحلية. وتشير التحليلات التي أُجريت لهذا التقرير إلى أن عمق اتفاقات التجارة الإقليمية من ناحية أحكام تدابير إجراءات الصحة والصحة النباتية والحواجز التقنية أمام التجارة يؤثر على الطلب على الأغذية بسبل مختلفة اعتمادًا على نطاق التجهيز.
وبوسع اتفاقات التجارة الإقليمية العميقة التي تركز على تدابير الصحة والصحة النباتية والحواجز التقنية أمام التجارة أن تسهّل استيراد الأغذية العالية التجهيز.
وعلى سبيل المثال، تميل اتفاقات التجارة الإقليمية التي تحتوي على عدد كبير من أحكام تدابير الصحة والصحة النباتية إلى تسهيل استيراد الأغذية العالية التجهيز مقارنة بالأغذية الأخرى. ومن الممكن أن تؤثر تدابير الحواجز التقنية أمام التجارة، بما في ذلك التوسيم التغذوي، على الطلب على الواردات، ما يؤدي إلى انخفاض توسيع تجارة الأغذية العالية التجهيز مقارنة بالمستويات الأخرى لتجهيز الأغذية. ومن الممكن أن يفضيَ هذا الأمر إلى تداعيات على صانعي السياسات التجارية الذين يتفاوضون بشأن اتفاقات التجارة الإقليمية التي يزداد وجودها في دائرة الضوء في الخطاب العام المحيط بالتغذية.
السياسات التجارية والتدابير الخاصة بالتغذية: اتساق السياسات
تهدف السياسات المتعلقة بالزراعة إلى ضمان الأمن الغذائي بشكل مستدام والحفاظ على مستوى من الدخل الزراعي يواكب اتجاهات الدخل في القطاعات الاقتصادية الأخرى. وتخضع أدوات الدعم المحلي والأدوات السياسية التجارية لقواعد منظمة التجارة العالمية وضوابطها. ومبدأ عدم التمييز هو جوهر اتفاقات منظمة التجارة العالمية، إذ يهدف إلى ضمان المعاملة العادلة والمنصفة لجميع الشركاء التجاريين. ويحظر هذا المبدأ التمييز بين المنتجات المتشابهة من أصول أجنبية مختلفة، وكذلك بين المنتجات المتشابهة ذات الأصول الأجنبية والمحلية.
ومع ذلك، هناك شواغل لكون قواعد منظمة التجارة العالمية واتفاقات التجارة الإقليمية تفرض قيودًا محتملة على الحيز السياسي المتاح لتحسين التغذية وتمكين الأنماط الغذائية الصحية، أي قدرة الحكومة على اتباع سياسات الأغذية والتغذية لتحقيق أهدافها الوطنية.
وتستخدم بعض البلدان السياسات التجارية لمعالجة الأهداف الخاصة بالتغذية. وعلى سبيل المثال، خفضت فيجي في عام 2012 التعريفات الجمركية على الفاكهة والخضار غير المزروعة محليًا من 32 إلى 5 في المائة بغية الترويج صراحةً للأنماط الغذائية الصحية بقدر أكبر. وفي حالات أخرى، أثار استخدام أدوات السياسات التجارية لتحسين التغذية شواغل إزاء مبدأ التمييز. وعلى سبيل المثال، ألغت ساموا حظرًا على استيراد ذيول الديك الرومي - وهي قطع لحم رخيصة الثمن تحتوي على نسبة عالية من الدهون - في إطار انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى القلق من أنها لم تعالج أغذية مماثلة أخرى ذات محتوى عالٍ من الدهون، واستبدلت الحظر على الاستيراد بتدبير ضريبي.
ولا تقيّد قواعد منظمة التجارة العالمية الحيز السياسي للبلدان في سعيها إلى تحقيق الأهداف الخاصة بالتغذية، ولكنها تؤثر على اختيار أدوات السياسات بسبب مبدأ عدم التمييز.
وعلى سبيل المثال، تنطبق أدوات السياسات، مثل ضرائب الاستهلاك، على الأغذية والمشروبات المستوردة والمنتجة محليًا ويمكن أن تكون فعالة في معالجة الأهداف الخاصة بالتغذية. وبين عامي 2017 و2019، ارتفعت نسبة الأعضاء في منظمة التجارة العالمية الذين يفرضون ضرائب على المشروبات المحلّاة بالسكر من 23 إلى 38 في المائة.
ويعدّ وضع بطاقات التوسيم على الأغذية أحد الوسائل الأساسية للتواصل بين الجهات الفاعلة في سلسلة القيمة، من المنتِج إلى المستهلِك. وينقل التوسيم التغذوي الخصائص والصفات الغذائية للأغذية إلى المستهلكين، ما يمكّنهم من اتخاذ خيارات غذائية مستنيرة.
وفي عام 2004، اقترحت منظمة الصحة العالمية التوسيم التغذوي لواجهة العبوات باعتباره إجراء سياسيًا لتحسين النمط الغذائي والصحة.
ويمكن نقل ملخص للجوانب والخصائص التغذوية الرئيسية للمنتجات الغذائية في شكل بطاقة توسيم يسهل فهمها على الغلاف تعرض الشعارات أو علامات التحذير أو الرموز أو الصور التوضيحية أو إشارات المرور المتعددة أو الدرجات سعيًا إلى تحسين فهم المستهلك ودعم عمليات شراء الأغذية الصحية.
ويُصنَّف التوسيم التغذوي لواجهة العبوات (FoPL) على أنه حواجز تقنية أمام التجارة، ويخضع بالتالي لاتفاق منظمة التجارة العالمية بشأن الحواجز التقنية أمام التجارة. ويمكن أن يلتمس أعضاء منظمة التجارة العالمية مبررات لتوسيم واجهة العبوات بالمعلومات التغذوية الخاصة بعضو آخر إذا كان ذلك يؤثر بشكل كبير على التجارة، وما إذا كان فعالًا في معالجة الهدف التغذوي ذي الصلة وما إذا كانت هناك تدابير بديلة يمكن أن تحقق النتيجة نفسها. وفي الفترة الممتدة بين عامي 1995 و2023، أثار 37 بلدًا في لجنة منظمة التجارة العالمية المعنية بالحواجز التقنية أمام التجارة 77 شاغلًا تجاريًا محددًا بشأن الأنظمة الخاصة بالمنتجات الغذائية والمشروبات، ومنها 52 شاغلًا يرتبط بمتطلبات وضع بطاقات التوسيم.
ويمكن للمناقشات الدائرة بين البلدان في لجنة منظمة التجارة العالمية المعنية بالحواجز التقنية أمام التجارة أن تؤثر في سياسات التغذية أو أن ترسم معالمها في بلد معين في ما يتعلق بوضع بطاقات التوسيم على الأغذية بحيث تتناسب قدرتها على دعم الخيارات الغذائية الصحية مع تأثيرها على التجارة.
ويمكن أن يساعد فهم التفاعل بين سياسات التجارة والتغذية في تصميم سياسات فعالة ومتسقة مع قواعد منظمة التجارة العالمية. وعلى المستوى الوطني، هناك مجال لتعزيز اتساق السياسات بين التجارة والتغذية، على سبيل المثال، من خلال إنشاء آليات لتمكين المشاركة بين قطاعي الصحة والتجارة في التفاوض على اتفاقات التجارة وتنفيذها.
ويرسّخ بناء القدرات في أوساط صانعي السياسات التجارية ومسؤولي التغذية اتساق السياسات بين التجارة والتغذية. ويكتسي إشراك أصحاب المصلحة والشفافية في التفاوض بشأن اتفاقات التجارة أهمية بالغة لكي تحسّن التجارة التغذية.
وفي ما يتعلق باتفاقات التجارة العميقة، يكتسي اتساق السياسات بين أهداف التجارة والتغذية، فضلًا عن إشراك أصحاب المصلحة والشفافية، أهمية كبيرة في جعل المفاوضات أكثر شمولًا. ويمكن لتعزيز مشاركة جميع أصحاب المصلحة، وخاصة أولئك المرتبطين بالتغذية والصحة العامة، وزيادة الشفافية في المفاوضات بشأن اتفاقات التجارة الأعمق أن يكفل أن تعالج التجارة المتزايدة أهداف الأمن الغذائي والاقتصاد والتغذية.
وبوسع إعداد خطوط توجيهية متعلقة بالتغذية وتفويض لمعالجة الشواغل الصحية المتصلة بالتغذية والتواصل الواضح بشأنها أن يدعم إجراءات السياسات التجارية في مجال التغذية. وبالإضافة إلى ذلك، يكتسي تعزيز الشفافية من خلال المنتديات التي تتيح للحكومات وأصحاب المصلحة غير الحكوميين والمجتمع المدني وأوساط المعرفة مناقشة مسائل التغذية المنبثقة عن التجارة أهمية في مجال تقييم التأثير المحتمل لاتفاقات التجارة على التغذية.