سيتفق أغلب خبراء الاقتصاد على أن التجارة تعمل عمومًا على زيادة الرفاه. فمنذ إنشاء منظمة التجارة العالمية في عام 1995، شهدت التجارة توسعًا كبيرًا وتشير الأبحاث الحديثة إلى أن هذا الأمر أدى في المتوسط إلى تأثيرات رفاه إيجابية إلى حد كبير ولكنها غير متجانسة.64 وفي البلدان المفتوحة على التجارة، تُخصَّص الموارد بما يتماشى مع الميزة النسبية، ويقلّص هذا الأمر تكاليف الإنتاج ويزيد الكفاءة. وفي الأجل الأبعد، تعمل التجارة على تعزيز انتشار التكنولوجيا والمعرفة في البلدان. ويزيد هذا الواقع النمو من خلال تحسين الإنتاجية ونوعية المنتج وتشجيع الإبداع.65
وفي قطاعي الأغذية والزراعة، من الممكن أن تكون المكاسب الناجمة عن الانفتاح على التجارة أكبر من المكاسب في القطاعات الأخرى. وتتشكل الميزة النسبية في الزراعة بواسطة التكنولوجيا والموارد الطبيعية مثل الأرض والمياه، والتي تختلف اختلافًا كبيرًا بين البلدان. وتساعد التجارة البلدان على التغلب على قيود الموارد الطبيعية وتحقيق المكاسب من خلال استيراد الأغذية بأسعار أدنى من البلدان التي تتمتع بوفرة من الأراضي والمياه، وعليه ضمان الأمن الغذائي لمواطنيها.66
ومع ذلك، يعدّ الانفتاح على التجارة وتأثيراته على المجتمع أمرًا مثيرًا للجدل ويخضع لنقاش حاد بين مؤيدي التجارة الحرة ومنتقدي العولمة. وفي الواقع، من الممكن توزيع المكاسب الناجمة عن التجارة بشكل غير متكافئ، الأمر الذي يؤدي إلى نشوء حالة من عدم المساواة بين البلدان وداخلها.67 ويؤثر الانفتاح التجاري على أسعار السلع وأسعار عوامل الإنتاج، بما في ذلك أجور العمال، وبالتالي قد يؤدي إلى بروز فائزين وخاسرين. وفي مجال الزراعة، يتعلق أحد الشواغل الرئيسية بقدرة صغار المزارعين في البلدان النامية على المنافسة على المستوى العالمي في الأسواق المفتوحة، ولكن أيضًا بالروابط بين التجارة والصحة والتغذية.68
التجارة والصحة
يدرس العديد من الباحثين تأثير الانفتاح التجاري على الاقتصاد من خلال دراسة النتائج الصحية بوصفها مقياسًا بديلًا عن الرفاهية. ويُعتبر تحسين صحة الأشخاص والحد من التفاوتات الصحية أمرين أساسيين لتحقيق أهداف التنمية المستدامة. ويشير الاستعراض المنهجي للتأثيرات الصحية الناجمة عن التجارة إلى مجموعة من النتائج، بما يشمل انخفاض معدل وفيات الأطفال، وزيادة متوسط العمر المتوقع، وتحسين صحة العمال، والتغيّرات في تركيبة الغذاء المتاح للاستهلاك والممكن أن يؤثر على الأنماط الغذائية وبالتالي التغذية.69، 70
وعلى سبيل المثال، وجد محللون استخدموا بيانات من 80 اقتصادًا ناشئًا وبلدًا ناميًا بين عامي 1960 و2010، أدلة على أن تحرير التجارة أدى إلى خفض معدل وفيات الرضّع في حوالي نصف البلدان المشمولة في الدراسة، بينما لم يكن هناك تأثير كبير في الحالات المتبقية. ويمكن أن يُعزى هذا إلى ارتفاع المداخيل، وبصورة محددة أكثر، إلى انخفاض الضرائب على الزراعة التي أثرت إيجابًا على مداخيل المزارع.71
وفي أفريقيا، تبيّن أن السياسة التي تسمح لبلدان كثيرة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى بالوصول إلى الولايات المتحدة من دون فرض رسوم جمركية - قانون النمو والفرصة الأفريقيين الصادر في عام 2000 - تخفض معدلات وفيات الرضّع في تلك البلدان الواقعة جنوب الصحراء الكبرى والتي تصدّر كميات كبيرة من المنتجات الزراعية والمعادن الخام إلى الولايات المتحدة، مقارنة بالبلدان المصدرة للنفط.72 وأدت زيادة فرص العمل في هذه القطاعات الكثيفة بالعمالة إلى توليد الدخل وساعدت في خفض معدلات وفيات الرضّع. وفي الواقع، لُوحظ انخفاض أعلى في معدلات وفيات الرضّع في الأسر التي تزاول فيها الأمهات العمل الزراعي والعمل اليدوي.
وتؤكد معظم الدراسات أن المداخيل تشكل المسار الرئيسي لتأثيرات التجارة على الصحة. ولكن، يمكن أن يقتصر هذا التأثير الإيجابي على مجموعات سكانية محددة أو قطاعات من الاقتصاد تستفيد من زيادة التجارة، الأمر الذي يؤدي إلى تفاوتات في الدخل قد تُفضي إلى أعباء متعددة مترتبة عن سوء التغذية (انظر الجزء 1).
التجارة والتغذية
يمكن أن تؤثر تجارة السلع والخدمات على التغذية عبر الكثير من القنوات المباشرة وغير المباشرة والآليات المعقَّدة. ومن المرجح تحديد التجارة على نحو مشترك مع دوافع اقتصادية واجتماعية أخرى، مثل الدخل والاستثمار والتعليم وأسلوب الحياة، تؤثر أيضًا على التغذية، ما يجعل تحديد آثارها في عمليات التقييم التجريبية أمرًا صعبًا. وفي الواقع، يمكن أن تختلف الآليات والتأثيرات الدقيقة على مختلف نتائج التغذية بحسب السياق ومرحلة التنمية، ولكن لم تتبلور حتى الآن سوى القليل من الأدلة التجريبية على هذه العلاقات.73، 74
وحاولت بعض الدراسات فك تشابك تأثيرات الأبعاد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الناتجة عن العولمة على نتائج التغذية، مثل انتشار السمنة أو الرقم القياسي لكتلة الجسم - وهو مقياس للدهون في الجسم بناءً على الطول والوزن. وتقدّم هذه المجموعة من الأبحاث التجريبية نتائج متباينة (انظر الإطار 2-4). وتشير بعض النتائج إلى أن العولمة السياسية والاجتماعية تزيد الرقم القياسي لكتلة الجسم من خلال التأثير على أنماط الحياة من خلال تدفقات المعلومات والتأثيرات المجتمعية. وتبيّن أن العولمة الاقتصادية الموسَّعة، التي تشمل التجارة في السلع والخدمات فضلًا عن الاستثمارات الأجنبية المباشرة، ترتبط بارتفاع أو انخفاض متوسط الرقم القياسي لكتلة الجسم أو انتشار السمنة والوزن الزائد، وذلك اعتمادًا على نتائج التغذية المحددة ومؤشر العولمة الذي اختاره المحلل وعدد البلدان التي تم أخذها في الاعتبار في العينة وأساليب التقدير.
الإطار 2-4العولمة ونتائج التغذية: دراسات تجريبية
تشير دراسة أجرت تحليلًا لآثار العولمة والمتغيّرات الأخرى في 190 بلدًا خلال الفترة 1980-2008 إلى أن عوامل محلية مثل زيادة نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي والتوسّع الحضري ترتبط بزيادات في متوسط الرقم القياسي لكتلة الجسم لدى الرجال والنساء. وفي حين لم تتكهن العولمة الاقتصادية بأي زيادات في متوسط الرقم القياسي لكتلة الجسم، تبيّن أن دخل الفرد له تأثير كبير. وفي أوساط البلدان المنخفضة الدخل، ارتبط ارتفاع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بزيادات في الرقم القياسي لكتلة الجسم. وفي البلدان المرتفعة الدخل، انعكس هذا الأثر، إذ ترتبط الزيادات في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بانخفاض الرقم القياسي لكتلة الجسم، ما يشير إلى انخفاض معدل انتشار الوزن الزائد والسمنة.106
وفي المقابل، في دراسة أخرى استخدمت عيّنة من 127 بلدًا بين عامي 1980 و2008، ارتبطت العولمة الاقتصادية حتمًا بزيادات متواضعة في متوسط الرقم القياسي لكتلة الجسم لدى البالغين.107 وراعت دراسات عدّة مؤشرات تختلف عن الرقم القياسي لكتلة الجسم، مثل معدل انتشار السمنة أو الوزن الزائد. وكثيرًا ما يتبين أن العولمة الاقتصادية ليس لها أي أثر أو أن أثرها يتناقص إزاء معدل انتشار السمنة أو الوزن الزائد. وخلصت دراسة شملت 56 بلدًا بين عامي 1991 و2009 إلى أن العولمة ترتبط بشكل كبير وملحوظ بزيادة ميل الفرد إلى الوزن الزائد لدى النساء. ولكن، تبيّن أن هذا التأثير خاضع لهيمنة الأبعاد السياسية والاجتماعية للعولمة، وليس البُعد الاقتصادي فحسب.108
وخلصت دراسة أخرى شملت 180 بلدًا إلى أن الأبعاد الاقتصادية والسياسية للعولمة تقلل معدل انتشار السمنة في أوساط الأطفال والشباب.109
ويمكن للأبعاد الأخرى للعولمة مثل تحسين الاتصالات وتدفقات المعلومات أن تؤثر على تفضيلات المستهلكين وأنماطهم الغذائية ونتائج التغذية. وفي جميع أنحاء العالم، تبيّن أن التكامل الاجتماعي الوثيق، الذي يُقاس بوصفه مؤشرًا للاتصالات الدولية الشخصية وتدفقات المعلومات الدولية والقرب الثقافي، يرتبط بالتأكيد بالسمنة.111،110
وتشير دراسة أخرى إلى أن الجوانب الاجتماعية والثقافية للعولمة والوصول إلى تكنولوجيا المعلومات والاتصالات تقلل حصة الشباب الذين يعانون من الوزن الزائد والسمنة وتتراوح أعمارهم بين 15 و19 عامًا. ويشير هذا الأمر إلى أن زيادة الترابط الدولي داخل هذه الفئة العمرية يمكن أن تساعد في تعزيز المعرفة بشأن العادات الغذائية ونمط الحياة الصحي بقدر أكبر.112
وفي دراسة بشأن آثار العولمة الاجتماعية والانفتاح التجاري على متوسط الرقم القياسي لكتلة الجسم، ارتبطت العولمة الاجتماعية المتزايدة بارتفاع متوسط الرقم القياسي لكتلة الجسم وزيادة إتاحة البروتينات الحيوانية والسكر للاستهلاك. وتأثرت هذه النتائج بشكل أساسي بمكونات محددة للعولمة الاجتماعية مثل تدفقات المعلومات عبر التلفزيون وشبكة الإنترنت. ولم يكشف الانفتاح التجاري عن أي أثر على النتائج الغذائية أو الصحة.113
ويستكشف فرع آخر من الدراسات التجريبية العلاقة بين انفتاح تجارة السلع (كل السلع) ونتائج التغذية (انظر الإطار 2-5 بشأن مزيد من التفاصيل حول نتائج التغذية). ففي البرازيل، تبيّن أن انفتاح تجارة السلع قد أثر بشكل إيجابي وكبير على معدل انتشار الوزن الزائد والسمنة بين عامي 1988 و2008، ما يشير إلى أن التجارة زادت توافر الأغذية المجهَّزة والغنية بالسعرات الحرارية والسلع والخدمات الأخرى التي يمكن أن تشجع على اتباع نمط حياة أكثر استقرارًا.75
الإطار 2-5الأهداف العالمية للتغذية
في عام 2012، وبمناسبة انعقاد الدورة الخامسة والستين لجمعية الصحة العالمية، تعهدت الحكومات الوطنية بتحقيق ستة أهداف للتغذية بحلول عام 2025: خفض عدد الأطفال دون سن الخامسة الذين يعانون من التقزّم بنسبة 40 في المائة على مستوى العالم؛ وخفض معدل انتشار فقر الدم لدى النساء في سنّ الإنجاب بنسبة 50 في المائة؛ وخفض معدل انتشار انخفاض الوزن عند الولادة بنسبة 30 في المائة؛ وعدم زيادة حالات الوزن الزائد لدى الأطفال؛ وزيادة معدل الرضاعة الطبيعية الخالصة في الأشهر الستة الأولى بنسبة تصل إلى 50 في المائة على الأقل؛ وخفض الهزال لدى الأطفال والحفاظ عليه إلى أقل من 5 في المائة في كل مكان. وفي عام 2013، تبنت جمعية الصحة العالمية هدفًا سابعًا لوقف ارتفاع معدلات السمنة في أوساط البالغين، في إطار خطة العمل العالمية بشأن الوقاية من الأمراض غير المعدية ومكافحتها. وأُحرز تقدم في معظم الأهداف العالمية للتغذية، ولكن هذا التقدم يختلف بين المؤشرات وما زال العالم غير قادر على تحقيق جميع هذه الأهداف.
يُستخدم معدل انتشار النقص التغذوي لرصد الجوع على المستويين العالمي والإقليمي، وكذلك مؤشر هدف التنمية المستدامة 1-1-2. ويُعرَّف بأنه نسبة السكان الذين يستهلكون أغذية معتادة غير كافية لإتاحة متوسط كمية الطاقة الغذائية المطلوبة لكي يعيشوا حياة طبيعية ونشطة وصحية. وبالإضافة إلى ذلك، معدل انتشار الوزن الزائد لدى البالغين هو مؤشر مهم للحالة الصحية العامة للفرد. وقد شهد الوزن الزائد زيادة سريعة في معظم البلدان وفي جميع مناطق العالم. وقُدِّر انتشار الوزن الزائد على مستوى العالم بنحو 43 في المائة في عام 2022.
الأهداف العالمية للتغذية
وعلى المستوى العالمي، خلصت دراسة أُجريت في 175 بلدًا خلال الفترة 1975-2016 إلى أن انفتاح تجارة السلع يرتبط بالتأكيد بمعدل انتشار السمنة، إذ أدت زيادة بنسبة 10 في المائة في انفتاح التجارة إلى زيادة بنسبة 0.8 في المائة في معدل انتشار السمنة، في المتوسط.76
وتبيّن أن هذا التأثير كان أقوى في البلدان المتوسطة الدخل من الشريحة الدنيا، تليها البلدان المتوسطة الدخل من الشريحة العليا والبلدان المنخفضة الدخل، ما يشير إلى أن الزيادات في الدخل كانت مسارًا لتأثيرات التجارة على التغذية. وفي الواقع، في دراسة أخرى أُجريت في عدة بلدان، تبيّن أن زيادة انفتاح تجارة السلع تؤدي إلى انخفاض معدلات التقزّم، إذ ينتقل الأثر، إلى حد كبير، من خلال زيادة المداخيل.77
وبالإضافة إلى ذلك، تشير دراسة أُجريت في 151 بلدًا إلى أهمية المداخيل باعتبارها مسارًا يؤثر من خلاله انفتاح تجارة السلع على التغذية، إذ استكشفت تأثيرات التجارة على كفاية إمدادات الطاقة الغذائية والتنوع الغذائي والجوانب المتعلقة بالنوعية للأمن الغذائي أثناء الفترة الممتدة بين عامي 1980 و2007.78 وفي المتوسط، تبيّن أن انفتاح تجارة السلع يؤثر تأثيرًا صافيًا أكيدًا ومهمًا على الأمن الغذائي الذي يقاس بكفاية إمدادات الطاقة الغذائية. كما تبيّن أن الانفتاح يساهم في تحسين الأنماط الغذائية من خلال توسيع نطاق إتاحة متوسط البروتينات الحيوانية للاستهلاك في كل بلد، ومن خلال زيادة الدخل، ما يؤدي إلى زيادة الطلب على المنتجات الحيوانية المصدر.
مسارات آثار تجارة المنتجات الغذائية على التغذية
لا تزال الأدلة التجريبية حول الروابط بين تجارة المنتجات الغذائية ونتائج التغذية نادرة، وحتى الآن، لم تستكشف سوى حفنة من الدراسات هذه الروابط بطريقة منهجية أكثر.79 وتشكل تجارة المنتجات الزراعية والغذائية وسيلة مهمة لضمان التنوع الغذائي. وفيما تحسِّن التجارة إتاحة وإمكانية استهلاك الأغذية الداعمة لنظام غذائي صحي وكذلك الأغذية الغنية بالطاقة و/أو الدهون و/أو السكريات و/أو الملح، قد تكون لها آثار متنوعة على النتائج الغذائية.80، 81
ويشوب التعقيد الروابط بين التجارة والأنماط الغذائية ونتائج التغذية. ويمكن أن تكون آثار التجارة غير متجانسة على نطاق واسع عبر البلدان سواء أكان من حيث الاتجاه أو الحجم، اعتمادًا على موقف البلد إزاء مسار التنمية وخصائصها الهيكلية وبيئة السياسات الوطنية. ويجعل هذا الأمر العلاقة بين التجارة ونتائج التغذية غامضة ويصعب تحديدها وقياسها على نحو تجريبي.
وبالإضافة إلى ذلك، يؤدي التركيز على تأثير سياسات تجارة المنتجات الغذائية والزراعية إلى تضارب في النتائج. وقد اعتُبر تحرير التجارة أحد الآليات الرئيسية التي تؤثر التجارة من خلالها على الصحة والتغذية.82 وعمومًا، يبدو أن المنشورات التجريبية تشير إلى وجود ارتباط واسع النطاق بين تحرير التجارة وتحسين نوعية النمط الغذائي والحد من سوء التغذية.83 وتشير دراسات أخرى إلى أن التجارة، ولا سيما اتفاقات التجارة، تزيد توافر الأغذية المجهَّزة وتؤدي إلى ارتفاع معدلات السمنة.84، 85، 86 وإقرارًا بتعدد المسارات والآثار التي يمكن أن تخلفها تجارة المنتجات الغذائية على التغذية، من الضروري ربما إيلاء تركيز محدد على تجارة فئات غذائية محددة وروابطها بنتائج التغذية. ولكن، يمكن تصور مسارات كثيرة تؤثر من خلالها التجارة على التغذية. غير أن معظم هذه الآثار باطنية وتحدث في وقت متزامن ويعزز بعضها البعض، ما يجعل من الصعب تحديد العلاقات السببية. ويحاول تمرين قياسي اقتصادي أُجري لهذا التقرير التمييز بين فرادى آثار الانفتاح التجاري والدخل على مؤشرات غذائية مختارة (انظر الإطار 2-6).
الإطار 2-6تقدير متوسط تأثير انفتاح تجارة المنتجات الغذائية على مؤشرات مختارة للتغذية
لن يكشف ارتباط بسيط بين مؤشر غذائي، على سبيل المثال انتشار السمنة والانفتاح على تجارة الأغذية، بالضرورة عن متوسط التأثير السببي الأساسي. ويمكن أن يؤثر انفتاح تجارة الأغذية على السمنة من خلال عدة مسارات، بما في ذلك الدخل. وفي غضون ذلك، يمكن تحديد الانفتاح على تجارة الأغذية والدخل في وقت واحد، على الرغم من إمكانية تأثير كليهما على السمنة بشكل مستقل. وعلى سبيل المثال، يمكن أن يسهّل الانفتاح على تجارة الأغذية التحوّل الهيكلي ونمو الدخل من خلال زيادة توافر الأغذية والوصول إليها في بلد معين. ويستلزم هذا التحليل إطار نمذجة يمكن أن يفصل تأثير الانفتاح التجاري عن تأثير الدخل.
وباستخدام البيانات المتعلقة بمعدل انتشار السمنة لدى البالغين ومعدل انتشار التقزّم لدى الأطفال دون سن الخامسة، حددت عملية نمذجة أُجريت لهذا التقرير وقدّرت التأثيرات المنفصلة لانفتاح تجارة المنتجات الغذائية والناتج المحلي الإجمالي للفرد في البلدان. ومن أجل استيعاب التباين في التأثيرات، وبالنظر إلى اختلاف تأثيرات الانفتاح التجاري والدخل بين البلدان على مستويات مختلفة من التنمية، يتيح إطار النمذجة تقديرات على طول توزيع نتائج التغذية، أي القيم المنخفضة للسمنة والتقزّم (النسبة المئوية العاشرة من التوزيع)، والقيم المتوسطة (النسبة المئوية الخمسون) والقيم الأعلى (النسبة المئوية التسعون). وعلى سبيل المثال، عمومًا تُسجّل نسب عالية للسمنة في البلدان المتوسطة والمرتفعة الدخل، في حين تنتشر نسب عالية للتقزّم في البلدان المنخفضة الدخل.
وتدعم التأثيرات المقدَّرة مفهوم التحوّل التغذوي. ونمو الدخل هو محرّك رئيسي للتحول التغذوي، وتكون دائمًا تأثيرات الناتج المحلي الإجمالي للفرد على السمنة والتقزّم أقوى من تأثير الانفتاح التجاري. ويؤدي ارتفاع المداخيل إلى انخفاض معدلات التقزّم وارتفاع معدلات السمنة. وتكون هذه التأثيرات أقوى في البلدان المتوسطة الدخل التي تشهد نموًا سريعًا مع مستويات منخفضة إلى متوسطة من التقزّم والسمنة (الشكل 2-12).
الشكل 2-12متوسط تأثيرات انفتاح تجارة المنتجات الغذائية ونصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي على معدل انتشار السمنة لدى البالغين ومعدل انتشار التقزّم لدى الأطفال
وتجارة المنتجات الغذائية مهمة للأمن الغذائي والتغذية. وقد تبيّن أن انفتاح تجارة المنتجات الغذائية يحد التقزّم على جميع مستويات التنمية، لأن التجارة المتزايدة ترفع إتاحة الأغذية وتنوعها (انظر الجزء 3). وتكون التأثيرات أضعف في البلدان التي تعاني من مستويات عالية من التقزّم، وهي تُلاحَظ عادة في البلدان المنخفضة الدخل، وقد يرجع ذلك إلى أن هذه البلدان ليست مندمجة جيدًا في الأسواق العالمية للأغذية ولا يتم الاتجار بها على نحو مكثف.
ويرتبط الانفتاح التجاري ارتباطًا واضحًا نسبيًا بزيادة معدل انتشار السمنة عند مستويات عالية جدًا من السمنة وحسب. وتُسجَّل أعلى مستويات السمنة في الكثير من الدول الجزرية الصغيرة النامية، بما يشمل جزر المحيط الهادئ والبلدان في شمال أفريقيا وغرب آسيا (انظر الجزء 4). وبالنظر إلى القيود المفروضة على الأراضي والمياه والموارد الأخرى التي تؤثر على قدرتها على إنتاج الأغذية والزراعة، تعتمد هذه البلدان كثيرًا على الواردات الغذائية لإطعام سكانها ويتم الاتجار بها بشكل كبير (الشكل 2-2).
وفي هذه الحالات التي تنطوي على قدرة إنتاجية محلية محدودة، يمكن ربط تجارة المنتجات الغذائية مباشرةً بارتفاع معدلات السمنة. وفي البلدان التي تعاني من مستويات منخفضة إلى متوسطة من السمنة، لا يختلف تأثير انفتاح تجارة المنتجات الغذائية على معدلات السمنة اختلافًا كبيرًا عن الصفر.
توافر الأغذية والحصول عليها
تتيح تجارة المنتجات الغذائية مزيدًا من الواردات الغذائية وتزيد بالتالي توافر الأغذية للاستهلاك في بلد ما. ويساعد هذا الأمر في التغلب على القيود التي يفرضها التوزيع غير المتساوي للثروات من الموارد الطبيعية على إمدادات الأغذية والمغذّيات في البلدان. وفي ظل زيادة توافر الأغذية، تنخفض أسعار الأغذية المحلية، ما يجعل الحصول على الأغذية أمرًا أسهل. ويمكن للإتاحة الأعلى وانخفاض الأسعار أن يؤثرا على إجمالي استهلاك الأغذية وتكوين النمط الغذائي، ما يؤثر في نهاية المطاف على نتائج التغذية على المستوى الفردي والسكاني (انظر الجزء 3).87 وفي الوقت نفسه، يمكن أن تزيد التجارة توافر الأغذية العالية التجهيز الغنية جدًا بالطاقة والتي تحتوي على نسبة عالية من الدهون و/أو السكريات و/أو الملح، ما يرسم بالنتيجة معالم أنماط غذائية مرتبطة بالسمنة والوزن الزائد (انظر الجزء 4).
تنوع الأغذية
يسمح الانفتاح الأكبر على تجارة المنتجات الغذائية بتنوع أكبر في الواردات الغذائية والإمدادات الغذائية. وتمكّن الأسواق العالمية من تبادل الأغذية التي تُنتَج في ظل مناخات وتربة وظروف طبيعية أخرى محددة، وبالتالي تساهم في تنوع الأنماط الغذائية، ما قد يحسّن نتائج التغذية (انظر الجزء 3).88 وقد تبيَّن أن تجارة المنتجات الغذائية تشجع على اتباع نمط غذائي أكثر صحة وتوازنًا، نظرًا إلى قدرة البلدان على الحصول على مجموعة متنوعة أكثر فأكثر من الأغذية وإمدادات كافية من المغذّيات الكبرى والصغرى.89
استقرار الإمدادات الغذائية
يسمح انفتاح تجارة المنتجات الغذائية بإجراء تعديلات موسمية على الواردات الغذائية، ما يتيح تأمين إمدادات غذائية أكثر استقرارًا من حيث الكمية والتنوع على مدار السنة أو في حال حدوث صدمات، مثل الظروف المناخية القصوى التي تلحق أضرارًا بالإنتاج. وبناءً على ذلك، تعدّ التجارة آلية قوية محتملة لإقامة موازنة بين تقلبات العرض وتقليص تقلّب الأسعار في بلد ما. ويعالج استقرار الإمدادات الغذائية وأسعارها نتائج التغذية في الأجل القصير، مثل هزال الأطفال. وتشير التحليلات الأخيرة إلى أن زيادة بنسبة 5 في المائة في السعر الحقيقي للأغذية ترفع، في المتوسط، خطر الهزال بنسبة 9 في المائة والهزال الشديد بنسبة 14 في المائة، وذلك في البلدان المتوسطة والمنخفضة الدخل. وتنطبق هذه المخاطر على الرضّع الصغار وعلى الأطفال الأكبر سنًا الذين يعانون عادة من تدهور في نوعية النمط الغذائي في أعقاب ارتفاع أسعار المواد الغذائية.90
نمو الدخل
تتجلى القنوات غير المباشرة التي تؤثر من خلالها التجارة على التغذية في تأثيراتها على الاقتصاد الأشمل. ويمكن أن يحفز الانفتاح على تجارة المنتجات الغذائية النمو الاقتصادي في أي بلد، ما يؤدي إلى تسريع عملية التحوّل الهيكلي. وبوسع تجارة المنتجات الغذائية، ولا سيما الواردات، أن تساعد في تلبية الاحتياجات الغذائية المحلية من دون الاحتفاظ بقوة عاملة كبيرة في الزراعة. وتسمح الواردات الغذائية للقوى العاملة المقيدة بدايةً بالزراعة بالتحرر والهجرة إلى قطاعات غير زراعية أكثر إنتاجية، وبالتالي تسريع النمو.91 وعند تحليل عملية التحوّل الهيكلي في جمهورية كوريا، خلصت دراسة إلى أن الواردات الزراعية أدت دورًا حاسمًا في نمو الاقتصاد.92
وتم البحث جيدًا في آثار زيادة المداخيل على تناول الغذاء والتغذية. ويمكن أن تعمل زيادة المداخيل على تحسين الحصول على الأغذية وتؤدي إلى التحوّل من استهلاك حصة كبيرة من المواد الغذائية الأساسية إلى أنماط غذائية أكثر تنوعًا، بما في ذلك اللحوم والأسماك والحليب والبيض والفاكهة والخضار والدهون والزيوت (انظر الجزء 1). ومن الممكن أن يحسّن هذا التحوّل كفاية المغذّيات في الأنماط الغذائية، كما من الممكن أيضًا أن يؤدي إلى زيادة استهلاك الأغذية العالية التجهيز التي تحتوي على نسبة عالية من الدهون و/أو السكريات و/أو الملح، ما قد يساهم في زيادة انتشار الوزن الزائد والسمنة (انظر الجزء 4).
وفي الوقت نفسه، يمكن للانفتاح التجاري، من خلال تكثيف المنافسة أو من خلال تغذية عملية التحوّل الهيكلي، أن يؤثر أيضًا على توزيع الدخل وعدم المساواة مع ما يترتب عن ذلك من آثار سلبية على الأمن الغذائي والتغذية. وتشير إحدى الدراسات إلى أنه، بحسب مستويات الدخل الأوّلية وحجم قطاع الأغذية والزراعة وقدرته التنافسية في بلد معين، بوسع انفتاح تجارة المنتجات الغذائية أن بزيد من انتشار سوء التغذية، إذ يعاني المزارعون من انخفاض في المداخيل بسبب انخفاض الأسعار، ما يوازن أي مكاسب غذائية في القطاعات غير الزراعية في الاقتصاد.93
تكوين عادات المستهلك
يمكن أن تؤثر التجارة أيضًا في عادات تناول الأغذية من خلال نقل الأغذية والنكهات بين البلدان.94 ويمكن أن تؤدي زيادة توافر الأغذية المستوردة إلى تحويل تفضيلات المستهلكين وأذواقهم تجاهها، ما يفضي إلى استدامة استهلاكهم. وعلى سبيل المثال، تشير دراسة تحليلية تركز على إعادة توحيد ألمانيا إلى أن إدخال مجموعة واسعة من الأغذية إلى سكان ألمانيا الشرقية أدى إلى تغيير عاداتهم الغذائية، ما أدى إلى تحوّل في الأنماط الغذائية يمكن أن يفسر الزيادة في معدل انتشار الوزن الزائد والسمنة.95