اضطلعت التجارة بدور حيوي في وجود الإنسان منذ العصر الحجري الحديث عندما كان يتم تبادل الأغذية والبذور والأدوات من خلال الشبكات الاجتماعية والطرقات التجارية التي كانت تربط بين أسلافنا. واليوم، تواصل الأسواق العالمية للأغذية إقامة الروابط بين الشعوب والبلدان وتؤدي دورًا حاسمًا في نُظمنا الزراعية والغذائية. فهي تسهّل حركة الأغذية من مناطق الفائض الغذائي إلى مناطق العجز الغذائي، وتتشاطر تنوع الأغذية وتساهم بالتالي في تحقيق الأمن الغذائي والتغذية في العالم.
وأصبحت أسواق الأغذية المقترنة باقتصاد عالمي لا ينفكّ يزداد ترابطًا، تتسم أكثر فأكثر بطابع عالمي ومتكامل. وفي الفترة الممتدة بين عامي 2000 و2022، زاد حجم التجارة بالأغذية بأكثر من الضعف. ويتّضح من خلال هذه الزيادة الحادة أنّه عالم تتداول فيه أعداد أكبر من البلدان الأغذية في ما بينها، وعالمٌ أصبحت فيه الاقتصادات الناشئة من الجهات الفاعلة الهامة وباتت البلدان المنخفضة الدخل مدمجة بشكل أفضل في الأسواق العالمية للأغذية. ومما لا شك فيه أنّ هذا التوسّع الملحوظ في تجارة الأغذية يؤثر في توافر الأغذية وإمكانية الحصول عليها وكلفتها وتنوّعها في الأسواق المحلية وله تداعيات هامة على أنماطنا الغذائية اليومية.
ويستكشف إصدار عام 2024 من تقرير حالة أسواق السلع الزراعية الروابط المعقدة القائمة بين تجارة الأغذية من جهة والأنماط الغذائية والتغذية من جهة أخرى. إذ يمكن للتجارة أن تؤثر في الأنماط الغذائية والتغذية من خلال العديد من القنوات، ويمكن أن تكون آثارها غير متجانسة لأن التجارة، بطبيعتها، ترتبط بالنمو الاقتصادي والتحولات الديموغرافية والتفاعلات المجتمعية. ويقدّم التقرير أدلة شاملة عن كيفية تأثير التجارة على العرض والأسعار، وهما عنصران أساسيان في البيئة الغذائية يمكنهما بدورهما التأثير في الأنماط الغذائية والمساهمة في النتائج التغذوية.
وتساهم اليوم الأنماط الغذائية وأساليب العيش، في معظم البلدان المرتفعة والمتوسطة الدخل من الشريحة العليا، في ارتفاع معدلات انتشار الوزن الزائد والسمنة. ويشهد العديد من البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل من الشريحة الدنيا أيضًا تغييرات سريعة في الأنماط الغذائية وزيادة في انتشار الوزن الزائد والسمنة، بينما لم يتمكن بعد العديد من هذه البلدان من القضاء على نقص التغذية. ونتيجة لذلك، تعاني هذه البلدان من أشكال مختلفة من سوء التغذية، بما في ذلك نقص التغذية والنقص في المغذيات الدقيقة والوزن الزائد والسمنة، وكلّها موجودة بالتزامن ضمن البلد نفسه أو المجتمع نفسه أو الأسرة نفسها.
وإنّ الأنماط الغذائية الصحية والتغذية الجيدة ضرورية على مدى الحياة لضمان البقاء والصحة والنمو والتنمية وجوانب الرفاه كافة. ومن شأن اتباع نمط غذائي يحتوي على كميات كافية من المغذيات، ومتنوّع من حيث مختلف مجموعات الأغذية، ومتوازن من حيث الطاقة، ومعتدل في استهلاك الأغذية غير الصحية، وآمن أن يساعد على النمو وأن يحافظ على صحة جيدة وحياة مفعمة بالنشاط. ويندرج التطلّع إلى القضاء على الجوع وجميع أشكال سوء التغذية، بموازاة تشجيع النظم الزراعية والغذائية المستدامة، في جوهر الهدف 2 (القضاء على الجوع) من أهداف التنمية المستدامة. وبما أنّ أهداف التنمية المستدامة متأصلة في عمل منظمة الأغذية والزراعة، فقد اعتمدت المنظمة في عام 2021 إطارها الاستراتيجي للفترة 2022-2031، الذي وُضع لغرض دعم تنفيذ خطة التنمية المستدامة لعام 2030 من خلال التحوّل إلى نظم زراعية وغذائية أكثر كفاءةً وشمولًا وقدرة على الصمود واستدامة، وفقًا لركائز أربع، هي “الأفضليات الأربع”. وتهدف تغذية أفضل، وهي إحدى هذه الركائز، إلى القضاء على الجوع وتحقيق الأمن الغذائي وتحسين التغذية بجميع أشكالها من خلال زيادة إمكانية الحصول على أنماط غذائية صحية واستهلاكها.
وتؤثر تجارة الأغذية على التغذية من خلال تأثيراتها المترتبة على توافر الأغذية وتنوعّها وأسعارها. ويمكن أن تكون لها تأثيرات غير مباشرة على التغذية من خلال تأثيرها على المداخيل، حيث يمكن للتجارة أن تسهّل التحوّل الهيكلي للاقتصاد والنموّ.
وبإمكان الانفتاح على التجارة أن يزيد بشكل ملحوظ تنوّع الأغذية المتاحة للاستهلاك في بلد ما، وهو شرط أساسي لإرساء أنماط غذائية صحية. فلا تزخر كل البلدان بالموارد الطبيعية الكافية، كالأراضي والمياه، لإنتاج مجموعة منوعة من الأغذية بكفاءة بكميات تكفي لتلبية الاحتياجات التغذوية والتفضيلات الغذائية لسكانها. وعندما تستورد البلدان الأغذية التي تعجز عن إنتاجها بكفاءة، تولّد التجارة مكاسب اقتصادية، وفي الوقت نفسه، تزيد من تنوّع الأغذية في بلد ما، ما يساهم في تنوّع الأغذية المتاحة، مع احتمال تحسين الإمدادات من المغذيات. وبالفعل، يبيّن التقرير أنه، في الفترة الممتدة بين عامي 2010 و2020، ارتفع متوسط الإمدادات من المغذيات الدقيقة للفرد الواحد في جميع البلدان إلى حد كبير نتيجة توسّع التجارة. وفي الوقت نفسه، كانت أسعار الأغذية أدنى بالإجمال في البلدان الأكثر انفتاحًا على التجارة.
ومن شأن مساهمة التجارة في توافر الأغذية وإمكانية الحصول عليها وكلفتها الميسورة أن تُوجّه المناقشات حول النُهج السياساتية للتجارة المفتوحة مقارنةً بالاكتفاء الذاتي بالنسبة إلى الأغذية. وقد تأثّر توسّع التجارة بالأغذية على المستوى العالمي بقواعد التجارة المتعددة الأطراف التي أرست بيئةً تجارية تتمتع بقدر أكبر من الحرية والعدالة ويمكن التنبؤ بها أكثر، وهو ما أفضى، جنبًا إلى جنب مع ارتفاع عدد الاتفاقات التجارية الإقليمية، إلى تعزيز التجارة بالأغذية.
وفي ضوء الارتفاع العالمي لمعدّلات السمنة الذي يطال أقاليم العالم كافة، كان هناك تركيز متزايد على الخطوط التوجيهية العالمية والسياسات الوطنية في العديد من البلدان. ويسبر هذا التقرير أغوار النقاش الجاري حول دور التجارة في تقويض جودة النمط الغذائي ويناقش العلاقة بين تحرير التجارة والاتفاقات التجارية الإقليمية.
ويبحث إصدار عام 2024 من التقرير في أوجه التداخل بين السياسات التجارية والتغذوية، مثل توسيم الأغذية وفرض الضرائب، ويوضح لواضعي السياسات كيف تدعم هذه التدابير أهداف التغذية في المشهد المتغيّر للنظم الزراعية والغذائية العالمية.
وتؤدي الاتفاقات التجارية الإقليمية، التي تهدف إلى تعميق التكامل التجاري، دورًا محوريًا في تشكيل ديناميكيات التجارة وتركيبة الواردات الغذائية. ويؤكّد التقرير على وجود إمكانية على المستوى الوطني، لتعزيز اتساق السياسات بين قطاعي التجارة والتغذية، على سبيل المثال، من خلال إنشاء آليات لتسهيل التعاون بين صانعي السياسات التجارية والمسؤولين عن التدابير الخاصة بالتغذية عند التفاوض على الاتفاقات التجارية وتنفيذها.
ويقدّم هذا الإصدار من تقرير حالة أسواق السلع الزراعية أدلّة دامغة وآراء ثاقبة قيّمة لواضعي السياسات وغيرهم من الشركاء، بما يمكّنهم من اتخاذ خطوات عملية لتعزيز إمكانية الحصول على الأغذية المغذية وتمكين استهلاك أنماط غذائية صحية لتحسين التغذية. وإنّ تحقيق الاتساق السياساتي بين قطاعي التجارة والتغذية ضروري لمعالجة أبعاد التنمية المستدامة كافة. ويمكن لتعزيز قدرات واضعي السياسات والشركاء أن يشجّع التعاون الفّعال. وتلتزم منظمة الأغذية والزراعة بمواصلة الجهود التعاونية من أجل الدفع بعجلة تنفيذ خطة التنمية المستدامة لعام 2030 وأهداف التنمية المستدامة والسعي إلى تحقيق الأفضليات الأربع أي إنتاج أفضل، وتغذية أفضل، وبيئة أفضل، وحياة أفضل - من دون ترك أي أحد خلف الركب.
شو دونيو |