حالة الأغذية والزراعة 2023

الفصل 4 تعميم حساب التكاليف الحقيقية من أجل دعم تحويل النظم الزراعية والغذائية

تهيئة بيئة مؤاتية لتوسيع نطاق حساب التكاليف الحقيقية من أجل تحويل النظم الزراعية والغذائية

بغية تسهيل الاستخدام الصحيح للعوامل المساعدة المناسبة، ينبغي تحفيز استخدام حساب التكاليف الحقيقية في عملية صنع السياسات وعمليات الإنتاج وإدارة الأعمال. وقد ذكر التقرير آنفًا أنّ حساب التكاليف الحقيقية يمكنه تكوين فهم شامل للتأثيرات والتبعيات وتمكين اتخاذ قرارات أفضل من أجل الانتقال نحو نظم زراعية وغذائية مستدامة وقادرة على الصمود. والأمر ليس كذلك حاليًا، بالرغم من التقدم الملموس. ويقوم عدد من الجهات الفاعلة، بما في ذلك الحكومات والأوساط الأكاديمية والأعمال التجارية والمؤسسات المالية والوكالات الحكومية الدولية والوكالات الدولية، بتجربة أساليب وأطر مبتكرة بهدف الكشف عن التكاليف المستترة للنظم الزراعية والغذائية من أجل توجيه الإجراءات نحو الاستدامة. وقد حفزت هذه الجهود على إحداث تغير إيجابي في النظم الزراعية والغذائية، بما في ذلك الأعمال التجارية، ولكن لا تزال هناك حاجة إلى مزيد من التطوير في العديد من المجالات بغية تحقيق كامل إمكانات حساب التكاليف الحقيقية. ما هي إذًا الخطوات التي يجب اتخاذها من أجل دمج حساب التكاليف الحقيقية في عملية صنع القرار؟ وما هو الدور المحتمل لمختلف الجهات الفاعلة في دعم تهيئة بيئة مؤاتية لاستخدام حساب التكاليف الحقيقية؟

والأهم من ذلك، لا يمكن توسيع نطاق حساب التكاليف الحقيقية عن طريق مجموعة واحدة من الجهات الفاعلة؛ فهو يتطلب مساهمات تكميلية من مختلف أصحاب المصلحة الذين يؤثرون في عمل الأعمال التجارية الزراعية والغذائية. وتؤدي الحكومات، بسياساتها وأموالها واستثماراتها وقوانينها وأنظمتها، دورًا مركزيًا في تهيئة بيئة مؤاتية لتوسيع نطاق حساب التكاليف الحقيقية من أجل تحويل النظم الزراعية والغذائية. كما تضطلع المؤسسات البحثية والأوساط الأكاديمية بدور محوري، حيث تحتاج الأدوات والمؤشرات المختلفة المستخدمة في هذه الدراسات إلى الدعم بشكل مناسب من خلال منهجيات صارمة وقواعد بيانات دقيقة مستنيرة بالبحث. وبغية تحقيق هذه الغاية، يمكن لمنظمات البحوث أن تؤدي دورًا أساسيًا في تعميم حساب التكاليف الحقيقية عبر قنوات مختلفة، بما في ذلك إعداد ما يلي: (1) المؤشرات (المتعددة الاختصاصات)، لا سيما المؤشرات الاجتماعية والإنسانية وعوامل التقييم الخاصة بكل منها؛ (2) وآليات المحاسبة ونماذج التقارير التي تجسد مبادئ حساب التكاليف الحقيقية؛ (3) ودراسات الحالة التي تُطلع الأعمال التجارية على الممارسات المستدامة (انظر الإطار 14، الذي تكشف فيه دراسة أجريت باستخدام حساب التكاليف الحقيقية عن قيمة إنتاج البنّ الذكي مناخيًا في كولومبيا).17

وتُعتبر منظمات البحوث وواضعو المعايير أيضًا وسيلة مهمة لتطوير المنهجيات ووضع معايير جمع البيانات واستخدامها في عمليات تقييم حساب التكاليف الحقيقية. ويعدّ ذلك ضروريًا لضمان شفافية التكاليف والمنافع الحقيقية للنظم الزراعية والغذائية. وسيحظى تطبيق دراسات حساب التكاليف الحقيقية بتسهيل كبير من جانب شركات المحاسبة والمستشارين التجاريين، الذين يقدّمون المشورة والدعم لمنتجي الأغذية الزراعية والأعمال التجارية وأصحاب المصلحة الآخرين المعنيين في انتقالهم نحو الاستدامة. ويمكن للمؤسسات المالية ووكالات التصنيف الائتماني أن تكون ذات دور فعال إذا فضلت الإنتاج المستدام والأعمال التجارية والاستثمارات المستدامة. وفي نهاية المطاف، فإنّ المنتجين والأعمال التجارية – والتحالفات التي ينشئونها – هم الذين سيصنعون التغيير ويطبقون معايير جديدة، لا سيما المعايير الطوعية.

ضرورة تطوير منهجية حساب التكاليف الحقيقية وبياناتها

تتطلب عادة أي دراسة تستخدم حساب التكاليف الحقيقية قدرًا هائلًا من البيانات من أجل تقييم التكاليف والمنافع في نطاقها. والهدف الواضح منها هو جعل البيانات ملائمة للغرض، من حيث النوعية والتفاصيل اللازمة من أجل إرشاد صانعي القرار بصورة مناسبة. وحتى الآن، كانت البيانات التي تُجمع بشأن الأغذية والزراعة تتعلق بالتدفقات والتأثيرات الواضحة، المرتبطة بصورة عامة برأس المال الإنتاجي وبعض عناصر رأس المال البشري (انظر الشكل 1). في حين أنّ البيانات المتعلقة بنواح أخرى من رأس المال البشري، مثل ظروف العمل، تكون شحيحة في معظم الأحيان. والصعوبة الأكبر هي العثور على بيانات بشأن رأس المال الاجتماعي، مثل الشبكات الاجتماعية والمعارف الثقافية. وينطوي العثور على بيانات من أجل استخدامها في دراسات حساب التكاليف الحقيقية على تحديات أخرى مثل مدى سهولة القياس الكمي لبعض المتغيّرات، على النحو الموضح في الشكل 2.

ومن المحتمل أن يكون الافتقار إلى الحصول على تلك البيانات بكلفة منخفضة هو العائق الرئيسي أمام توسيع نطاق حساب التكاليف الحقيقية.43 وهذا أمر ملح للغاية في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، حيث تندر البيانات الثانوية ويكون جمع البيانات الأولية مكلفًا بسبب محدودية الموارد. وفي ضوء أزمة ندرة البيانات، سيسترشد توسيع نطاق حساب التكاليف الحقيقية بالأسئلة التالية: كيف يمكن تقليل كثافة استخدام الموارد في جمع البيانات؟ وكيف يمكن استخدام تقديرات البيانات الناقصة في حساب التكاليف الحقيقية؟ وهل يمكن إدراج البيانات ذات الجودة "غير الكافية" في حساب التكاليف الحقيقية وأن تسترشد بها عملية صنع القرار السياسي في نهاية المطاف؟

ويمكن الحصول على البيانات من ثلاثة مصادر:45،44 (1) البيانات الأولية التي جُمعت خصيصًا لدراسة حساب التكاليف الحقيقية، مثل المسوحات والقياسات المادية والتجارب الميدانية؛ (2) والبيانات الثانوية التي جُمعت ونُشرت في الأصل لغرض آخر أو في سياق دراسة مختلفة، ولكنها قريبة من المعلومات المطلوبة؛46 (3) والبيانات المقدَّرة باستخدام نماذج تعتمد على البيانات الأولية والثانوية المستقاة من سياقات مختلفة.

وغني عن القول إنّ جمع البيانات وبحثها وتحليلها بتمويل من القطاع العام هو أمر ضروري من أجل سد الفجوة في البيانات. ومما لا جدال فيه أنّ القيود المرتبطة بندرة البيانات وضعف نوعيتها تثير مشكلة ملحّة للغاية، لا سيما في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل. ومن المرجح أن تسبب الفجوات في البيانات وضعف نوعيتها درجة عالية من عدم اليقين في الافتراضات اللازمة لإجراء دراسة تستخدم حساب التكاليف الحقيقية. وينبغي معالجة هذه المفاضلة بطريقتين موسعتين.

ومن الناحية الاستراتيجية، ينبغي على المدى الطويل إدراج البيانات المطلوبة لدراسات حساب التكاليف الحقيقية في المسوح والدراسات الاستقصائية المنهجية التي تجريها وكالات الإحصاء العامة. وبغية تحقيق ذلك، ينبغي إعداد أداة سهلة الاستخدام واختبارها، حيث يمكن استخدامها في ما بعد من أجل تصميم إجراء معياري للمحاسبة يكون قادرًا على توليد بيانات بشأن التكاليف والمنافع المستترة في النظم الزراعية والغذائية، بمعنى آخر، بشأن تأثيراتها على رؤوس الأموال الاجتماعية والبشرية والبيئية (انظر الفصل الأول). ومع أنّ هذه المهمة صعبة وتتطلب بذل الوقت والموارد، إلّا أنّ منافعها كبيرة للغاية على المدى الطويل من حيث خفض الموارد المالية والبشرية اللازمة لجمع البيانات وإجراء حسابات التكاليف الحقيقية في مرحلة لاحقة.

ويمكن للحكومات أن تسهّل العملية من خلال تطوير آليات الإبلاغ وجعلها إلزامية. ومن الأمثلة على ذلك تصنيف الاتحاد الأوروبي، الذي ينشئ نظام تصنيف مشترك للأنشطة الاقتصادية المستدامة،47 وتوجيهات الاتحاد الأوروبي بشأن الإبلاغ عن استدامة الشركات، التي تتطلب من الشركات الكبرى والمدرجة نشر تقارير منتظمة عن المخاطر الاجتماعية والبيئية التي تواجهها وعن كيفية تأثير أنشطتها على الناس، بما في ذلك على حقوق الإنسان والبيئة.48

لكن نظرًا إلى الحاجة الملحة إلى معالجة مسألة التكاليف المستترة، ينبغي على صانعي القرار عدم الانتظار واستخدام البيانات المتاحة، بشرط أن تكون حدودها مفهومة جيدًا. وعلى المدى القصير إلى المتوسط، ينبغي لهم الاستفادة من جميع البيانات الثانوية والمقدّرة المتاحة. ويمكن بعد ذلك استخدام تقنيات النمذجة وتحليل الحساسية من أجل تحديد نقاط البيانات التي أعطت نتائج حادت بشكل كبير عن المعدل الوسطي والتي ينبغي استهدافها في جمع البيانات الأولية. ويمكن أيضًا إسناد الأولوية للأدلة بمساعدة مجموعة متنوعة من الأدوات المختلفة، مثل خرائط الفجوات في الأدلة، التي توفر تمثيلًا بصريًا لكمية ونوعية الأدلة المتاحة عن التدخلات السياسية المحتملة ونتائجها، على سبيل المثال. وتتيح هذه الخرائط إلقاء نظرة سريعة على التدخلات التي توجد أدلة قوية عليها وتلك التي لم تجرِ دراستها على الإطلاق أو جرت دراستها جزئيًا.49

وفي هذا السياق، يمكن لدليل البيانات المشترك المتعلق بالبيانات الثانوية وأدوات الجمع الموحدة الخاصة بالبيانات الأولية أن يقلل إلى حد كبير من الموارد اللازمة لإجراء دراسة حساب التكاليف الحقيقية.46 وفي فرنسا على سبيل المثال، أدت جهود القطاع العام إلى إنشاء قاعدة Agribalyse – وهي قاعدة بيانات منسقة لعمليات تقييم دورة حياة 500 2 منتج غذائي – التي استُخدمت بدورها من أجل إعداد خطط توسيم الأثر البيئي.49 وينبغي أن تكون هذه المبادرات ثمرة جهد جماعي لمجتمع حساب التكاليف الحقيقية، لأنها تتيح سد الفجوات في البيانات بكلفة منخفضة، وهو أمر ضروري لتوسيع نطاق دراسات حساب التكاليف الحقيقية.

ومن المهم الإشارة إلى ضرورة دعم الأدوات والمؤشرات المختلفة المستخدمة في دراسات حساب التكاليف الحقيقية من خلال بحوث مُحكمة وقواعد بيانات دقيقة.8 وهناك الكثير من البحوث التي يتعين القيام بها بشأن حساب التكاليف الحقيقية بغية تضييق الفجوات الواسعة حاليًا في توفر البيانات. وتجسد الأدوات والنماذج الحديثة التي أعدتها منظمة الأغذية والزراعة دور البحوث في تسهيل تعميم حساب التكاليف الحقيقية في النظم الزراعية والغذائية. وعلى سبيل المثال، فإنّ أداة منظمة الأغذية والزراعة الخاصة بالتقدير المسبق لصافي الكربون والأدوات المكمّلة لها – الأداة المتكاملة لتقييم التنوع البيولوجي وحسابه (B–INTACT) وأداة التقدير المسبق لصافي الكربون المتعلّقة بسلاسل القيمة (EX–ACT VC) – تتيح إجراء تقدير وتتبّع مستمرَين لنتائج التدخلات الزراعية المتعلقة بانبعاثات غازات الاحتباس الحراري والتنوع البيولوجي.50 ويمكن استخدام الأدوات فرادى أو مجتمعة من أجل التركيز على عناصر محددة من المشاريع والسياسات أو تكوين نظرة شاملة على آثارها البيئية. ومن الأمثلة الأخرى نموذج تقييم الأثر البيئي للثروة الحيوانية العالمية (GLEAM)، الذي يستند إلى تقييم دورة الحياة ويمكن استخدامه من أجل تقييم سيناريوهات بديلة سعيًا نحو تحقيق إنتاج حيواني أكثر استدامة. ويمكن استخدام النموذج لإنشاء سيناريوهات بشأن التأثيرات المحتملة للصدمات البيولوجية (الناجمة عن الأمراض) على الإنتاج الحيواني وانبعاثات غازات الاحتباس الحراري المتعلقة به (الإطار 21)، أو إجراء تحليل مقارن لنظم الإنتاج المختلفة من حيث مؤشرات الإنتاجية والاستدامة (الإطار 22).

الإطار 22انبعاثات غازات الاحتباس الحراري من إنتاج البيض والحليب – أدلة من تقييمين اثنين لدورة الحياة

يستخدم نموذج تقييم الأثر البيئي للثروة الحيوانية العالمية (GLEAM) التابع لمنظمة الأغذية والزراعة عمليات تقييم دورة الحياة من أجل تحديد كمية انبعاثات غازات الاحتباس الحراري الناجمة على طول سلاسل إمدادات الثروة الحيوانية. وهناك مثالان على ذلك يوضحان التباين في الانبعاثات ضمن مختلف نظم الإنتاج الحيواني وأقاليمه.

المثال الأول: إنتاج البيض المكثف مقابل إنتاج البيض الموسَّع في جنوب شرق آسيا

تكون كثافة الانبعاثات الناجمة عن كل بيضة في نظام إنتاج موسَّع أقل بكثير مقارنة مع نظام صناعي/مكثف.* ويعزى ذلك جزئيًا إلى كون الأعلاف المستخدمة في الفناء الخلفي/النظام الموسَّع هي من إنتاج محلي وتشمل بصورة عامة بقايا المحاصيل والمهدر من الأغذية. وكانت الانبعاثات الناجمة عن تلك البقايا قد احتسبت في الأصل على الغاية الرئيسية منها (إنتاج المحاصيل)، وبالتالي لا تؤخذ في الحسبان. بالإضافة إلى ذلك، لا تنجم أي انبعاثات عن استخدام الطاقة في العمليات داخل المزرعة ولا خارجها.

ومن جهة أخرى، تنجم عن النظم الصناعية/المكثفة انبعاثات غازات الاحتباس الحراري المتعلقة بالطاقة المستخدمة في أنشطة التغليف والتجهيز. علاوة على ذلك، غالبًا ما تستورد هذه النظم أعلافًا زُرعت في مناطق مخصصة لهذا الغرض وتنبعث منها غازات الاحتباس الحراري الناجمة عن عمليات تحويل استخدام الأراضي (على سبيل المثال إزالة الغابات من أجل زراعة فول الصويا). ويحدد الشكل ألف كمية انبعاثات غازات الاحتباس الحراري (بمكافئات ثاني أكسيد الكربون) لكل كيلوغرام من البيض على طول سلاسل القيمة الموسَّعة (الأعلى) والمكثفة (الأسفل) في جنوب شرق آسيا. وكما هو متوقع، فإنّ الانبعاثات الإجمالية لكل كيلوغرام من البيض هو أقل بكثير في النظام الموسَّع. بيد أنّ الانبعاثات المتعلقة بالسماد هي أعلى بكثير بسبب نوع السلالات والأعلاف المستخدمة.

الشكل ألف انبعاثات غازات الاحتباس الحراري على طول سلاسل قيمة إنتاج البيض الواسع النطاق (الأعلى) والمكثف (الأسفل) في جنوب شرق آسيا

المصدر: FAO. 2023. GLEAM 3.0 Assessment of greenhouse gas emissions and mitigation potential. في: Global Livestock Environmental Assessment Model (GLEAM). [ورد ذكره في 28 أبريل/نيسان 2023]. https://www.fao.org/gleam/dashboard/en
ملاحظات: *في نموذج GLEAM، تتميز النظم الموسَّعة أو نظم الفناء الخلفي بأنّ الحيوانات فيها تعيش بحرية وأنها تستهلك نسبة منخفضة من الأعلاف التجارية من المصادر المحلية وفيها أماكن إيواء بسيطة وتستخدم المنتجات المتاحة في الأسواق المحلية. وعلى الصعيد العالمي، فإنّ نسبة البيض المنتج في نظم الفناء الخلفي تقل عن 8 في المائة من الإنتاج الإجمالي للبيض في العالم.
المصدر: FAO. 2023. GLEAM 3.0 Assessment of greenhouse gas emissions and mitigation potential. في: Global Livestock Environmental Assessment Model (GLEAM). [ورد ذكره في 28 أبريل/نيسان 2023]. https://www.fao.org/gleam/dashboard/en

المثال الثاني: انبعاثات غازات الاحتباس الحراري المتعلقة بإنتاج الحليب في أفريقيا الشرقية وأمريكا الشمالية

تختلف حدة انبعاثات غازات الاحتباس الحراري باختلاف الأقاليم في العالم أيضًا. ففي أفريقيا الشرقية، على سبيل المثال، إنّ معظم الانبعاثات الناجمة عن كل وحدة من الحليب تعزى إلى التخمّر المعوي، بينما تكون الانبعاثات في أمريكا الشمالية مرتبطة بالأنشطة خارج نطاق المزرعة واستخدام الطاقة. لكن بما أنّ الانبعاثات المصاحبة للتخمر المعوي هي أقل في أمريكا الشمالية − بسبب ارتفاع إنتاج كل حيوان واختلاف السلالات ومدخلات الأعلاف وممارسات الإدارة − فإنّ إجمالي الانبعاثات فيها أقل لكل وحدة من الحليب.

ويرد ذلك في الشكل باء الذي يحلل سلسلة قيمة الحليب في أفريقيا الشرقية (الأعلى) وأمريكا الشمالية (الأسفل) ويحدد كمية انبعاثات غازات الاحتباس الحراري (بمكافئات غاز ثاني أكسيد الكربون) المصاحبة لكل مرحلة.

الشكل باء انبعاثات غازات الاحتباس الحراري المتصلة بالحليب في أفريقيا الشرقية (الأعلى) وأمريكا الشمالية (الأسفل)

المصدر: FAO. 2023. GLEAM 3.0 Assessment of greenhouse gas emissions and mitigation potential. في: Global Livestock Environmental Assessment Model (GLEAM). [ورد ذكره في 28 أبريل/نيسان 2023]. https://www.fao.org/gleam/dashboard/en.
المصدر: FAO. 2023. GLEAM 3.0 Assessment of greenhouse gas emissions and mitigation potential. في: Global Livestock Environmental Assessment Model (GLEAM). [ورد ذكره في 28 أبريل/نيسان 2023]. https://www.fao.org/gleam/dashboard/en.

وإذا أراد صانعو القرار تحديد القيمة النقدية لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري الناجمة عن نشاط اقتصادي ما (على سبيل المثال إنتاج البيض أو الحليب)، يمكنهم القيام بذلك عن طريق ضرب كمية الانبعاثات بالكلفة الاجتماعية الناجمة عن تلك الانبعاثات، التي قد تختلف باختلاف السياق. غير أنّ التركيز على الانبعاثات لوحدها يُعتبر مضللًا، حيث إنه يغفل مفاضلات وتكاليف كبيرة في أبعاد أخرى، مثل التكاليف المتعلقة باستخدام الأراضي أو إزالة الغابات أو إنتاج السماد ومبيدات الآفات واستخدامها.

وتتسم هذه الأدوات بأنها ذات قيمة عالية في حساب مختلف التأثيرات وتقييم السيناريوهات التي يمكنها توفير مدخلات لتحليل السياسات في سياق حساب التكاليف الحقيقية (انظر الفصل الثالث). كما أنها تساعد على سد الفجوات في البيانات التي تعيق حاليًا تعميم حساب التكاليف الحقيقية وجعل النتائج العلمية والبيانات متاحة ويسهل الوصول إليها ومفهومة بالنسبة إلى صانعي السياسات وغيرهم من أصحاب المصلحة.

ويمكن أن يكون تقييم دورة الحياة، الذي يلقي الضوء على الأثر البيئي لبعض سلاسل القيمة أو المنتجات الفردية، أحد المدخلات القيّمة لحساب التكاليف الحقيقية وينبغي استخدامه لتوسيع نطاق دراسات حساب التكاليف الحقيقية.51 وعلى سبيل المثال، استُخدمت عمليات تقييم دورة الحياة من أجل مقارنة التكاليف البيئية الناجمة عن إنتاج الأغذية الحيوانية المصدر على الثروة الحيوانية وتربية الأحياء المائية ومصايد الأسماك الطبيعية، ووجدت أن أساليب الإنتاج الأقلّ أثرًا هي مصايد الأسماك السطحية الصغيرة وتربية الرخويات المائية، في حين أنّ أساليب الإنتاج ذات الأثر الأعلى هي إنتاج لحوم الأبقار وتربية سمك السلور.52 ولكن ينبغي توخي الحذر عند استخدام المنهجية والدراسات الحالية الخاصة بتقييم دورة الحياة، حيث إنها تميل إلى تفضيل النظم الزراعية الكثيفة المدخلات وتسيء تمثيل النظم الإيكولوجية الزراعية الأقل كثافة، مثل الزراعة العضوية.53 علاوة على ذلك، فإنّ جميع الفجوات في الأدلة التي تؤثر على تقييم دورة الحياة في النظم الزراعية والغذائية بإمكانها أن تنتقل إلى تقديرات حساب التكاليف الحقيقية.54 ومع ذلك، يمكن استخدام تقييم دورة الحياة كنقطة بداية ينطلق منها تحليل حساب التكاليف الحقيقية، بحيث يجري تحويل التأثيرات التي يُفاد عنها عادةً في الوحدات المادية إلى قيمتها النقدية (كما في حالة انبعاثات غازات الاحتباس الحراري). ويصف الإطار 22 تحليلين لتقييم دورة الحياة يُستخدمان من أجل مقارنة نظم إنتاج البيض والحليب المختلفة من حيث انبعاثات غازات الاحتباس الحراري الناجمة عنها. بيد أنّ التحليلين يركزان على الانبعاثات ويتجاهلان التأثيرات البيئية الأخرى الناجمة عن الثروة الحيوانية، وبالتالي لا يمكن تقديم سوى تمثيل جزئي للأثر البيئي الناشئ عن الإنتاج الحيواني. وعليه، فإنّ التحليل يوفر مدخلات رئيسية من أجل إجراء تحليل شامل لحساب التكاليف الحقيقية، ولكن لا بدّ من تكميله بتأثيرات رئيسية أخرى، بما فيها إزالة الغابات وفقدان التنوع البيولوجي وتسرب النيتروجين وتغيّر الأراضي واستخدام المياه والتلوث.

وفي المجالات التي يكون فيها نقص في البيانات اللازمة لإجراء تلك التحليلات المنهجية لحساب التكاليف الحقيقية، ينبغي على صانعي السياسات وأصحاب المصلحة أن يبدأوا التحليل باستخدام البيانات المتاحة لديهم. وفي هذا الصدد، يعدّ إنشاء أداة نموذج تقييم الأثر البيئي للثروة الحيوانية العالمية الخاصة بمنظمة الأغذية والزراعة خطوة مهمة بالفعل، كونها توفر معلومات مفصَّلة وقائمة على الأدلة لأصحاب المصلحة الرئيسيين حول الآثار الصحية والبيئية الناجمة عن قطاع الثروة الحيوانية (انظر الإطارين 21 و22). ويمكن أن تُدرج نتائج النموذج في تحليلات البؤر الساخنة التي قد توفر بدائل للقياس الكمي الكامل حين لا يمكن إجراؤه بسبب ندرة البيانات. وفي تحليل البؤر الساخنة، تتجلى بوضوح الأهمية النسبية للمؤشرات المختلفة من دون تحديدها كميًا بشكل كامل. ويمكن استخدامه عندما تكون البيانات نادرة، وكذلك في سياقات أخرى لا يكون فيها القياس الكمي ممكنًا، على سبيل المثال إذا لم تكن هناك طرق لتقييم بعض المتغيّرات أو قياسها أو تحديد قيمتها، مثل التبعيات والتأثيرات المتعلقة ببعض جوانب رأس المال الاجتماعي.

وينبغي لعمليات التقييم المحددة الأهداف لحساب التكاليف الحقيقية في سياقات ندرة البيانات أن تستفيد أيضًا من الأدوات الموجودة في مجال الاستدامة. وعلى سبيل المثال، فإنّ إطار سلسلة القيمة الغذائية المستدامة التابع لمنظمة الأغذية والزراعة، مع أنه غير مصنّف كإطار لحساب التكاليف الحقيقية، يتوافق بشكل كبير من الناحية المفاهيمية مع نهج حساب التكاليف الحقيقية. وقد جرى استخدامه من أجل تحليل سلاسل القيمة الغذائية ضمن الأبعاد الثلاثة للاستدامة: الاقتصادي والاجتماعي والبيئي.55 وهناك مثال بارز على استخدامه في تحويل النظم الزراعية والغذائية يتجسد في مشروع تعزيز استدامة مصايد الأسماك وتربية الأحياء المائية في مجموعة دول أفريقيا والبحر الكاريبي والمحيط الهادئ (FISH4ACP) للفترة 2020–2024 المموَّل من الاتحاد الأوروبي، الذي يوفر نهجًا موحدًا لتحليل سلسلة القيمة وتطويرها في القطاعين الفرعيين مصايد الأسماك الطبيعية وتربية الأحياء المائية. وجرى اختبار هذه المنهجية ميدانيًا في 12 بلدًا في أفريقيا والبحر الكاريبي والمحيط الهادئ.56 وتبدأ منهجية FISH4ACP بتحليل وظيفي لهيكل وديناميكيات سلسلة القيمة، آخذة في الاعتبار جميع العناصر والجهات الفاعلة وأصحاب المصلحة المعنيين. وتقوم بعدها بإجراء تقييم الاستدامة بغية تقييم الآثار الاقتصادية والاجتماعية والبيئية لسلسلة القيمة وتحديد البؤر الساخنة المهمة للاستدامة. ومن ثمّ تضع خطة لتطوير سلسلة القيمة بغية معالجة البؤر الساخنة التي جرى تحديدها،57 بما في ذلك جوانب مثل بناء القدرات وتمكين المرأة والإدارة المسؤولة للأرصدة السمكية والامتثال لتشريعات مصايد الأسماك وتحسين ظروف العمل.58

الدور التكميلي للمعايير والخدماتالمحاسبية والحاجة إلى بناء القدرات

تقوم الحكومات ومؤسسات البحوث والوكالات الأخرى المشاركة في وضع المعايير الخاصة بدراسات حساب التكاليف الحقيقية بتأدية دور مهم في تعميم حساب التكاليف الحقيقية من خلال وضع مجموعة من المتطلبات والحوافز. وبإمكان الحكومات تسهيل دمج حساب التكاليف الحقيقية في الآليات الحالية والمستقبلية الخاصة بالإبلاغ عن الاستدامة والأثر، على النحو الوارد في القسم السابق. وقد وافق 196 بلدًا مؤخرًا على إطار كونمينغ–مونتريال العالمي للتنوع البيولوجي وهذه خطوة إيجابية نحو تحسين الامتثال للإبلاغ بتحديات الاستدامة الناجمة عن الأنشطة التجارية. وعلى سبيل المثال، يفرض المقصد 15 على الحكومات أن تشترط على جميع الأعمال التجارية الكبيرة والمؤسسات المالية تقييم مخاطرها وتأثيراتها وتبعياتها على التنوع البيولوجي وتفصح عنها، في حين يَعد المقصد 18 بإجراء إصلاح شامل بشأن الإعانات الضارة بالبيئة.61

غير أنّه ينبغي دعم هذه الآليات والتوجيهات بمعايير ومؤشرات مناسبة لكي تُنفذ بنجاح. وتتيح المعايير المتفق عليها دوليًا، مثل تلك الصادرة عن المنظمة الدولية لتوحيد المقاييس، للشركات، على سبيل المثال، بن تتواصل بشفافية مع أصحاب المصلحة الخارجيين في ما يتعلق بالأسئلة التي يطرحونها بشأن عملياتها.62 ومن الأمثلة على تلك المعايير الطريقة التي يؤثر بها تغيّر المناخ على قيمة الشركة وكيف تساهم أنشطة الشركة في تغيّر المناخ.63

ويتعلّق أحد التطورات الإيجابية الأخرى بمعايير الإبلاغ عن استدامة الشركات التي أعدها فريق العمل المعني بالإفصاح المالي المتعلق بالمناخ. وقد وضع فريق العمل أيضًا توصيات للشركات بشأن الإفصاح عن المخاطر والفرص المتعلقة بالمناخ، جرى اعتمادها على نطاق واسع من قبل الشركات والمستثمرين، حيث أيدها أكثر من 700 1 كيان منذ عام 2021. 17 وبالمثل، فإنّ فريق العمل المعني بالإفصاح المالي المتعلق بالطبيعة، وهو مبادرة عالمية جديدة، يعمل على وضع توصيات من المتوقع صدورها بحلول سبتمبر/أيلول 2023. 64 ومع أنّ فريق العمل لا يضع المعايير، إلّا أنه سيوفر إطارًا عالميًا مصمَّمًا لإرشاد المعايير بشأن إدارة المخاطر المتعلقة بالطبيعة والإفصاح عنها. وبالتالي، بينما يؤدي واضعو المعايير دورًا رئيسيًا في توحيد المقاييس لمختلف جوانب حساب التكاليف الحقيقية، فإنّ مدى تنفيذ تلك المعايير من قبل الجهات الفاعلة في النظم الزراعية والغذائية (المنتجون والأعمال التجارية بصورة رئيسية) سيعتمد على عوامل عدة، بما في ذلك قدرة الجهات الفاعلة على تنفيذها. ومن المؤكد أنّ بناء القدرات أمر ضروري في هذا الصدد، خاصة في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل. ويمكن للحكومات أن تيسّر هذه العملية، إذا قررت اعتماد المعايير باعتبارها إلزامية، ويمكن أن تؤدي دورًا حاسمًا في تمكين برامج بناء القدرات في الفترة الانتقالية.

وتؤدي الخدمات المحاسبية دورًا مكملًا لعملية وضع المعايير. إذ إنّ وظيفة شركات المحاسبة والمستشارين التجاريين هي إعداد أدوات التقييم والقواعد المحاسبية الخاصة بحساب التكاليف الحقيقية. ومن خلال العمل بشكل وثيق مع منتجي المنتدات الزراعية والغذائية والأعمال التجارية وأصحاب المصلحة الآخرين، يمكن لشركات المحاسبة والمستشارين التجاريين تحديد العقبات المتعلقة بتطبيق حساب التكاليف الحقيقية ودعم أصحاب المصلحة من أجل تجاوزها. وفي هذا المجال أيضًا، من الضروري تنفيذ برامج بناء القدرات ونقل المعارف من أجل تكييف الخدمات المحاسبية والمستشارين التجاريين مع معايير حساب التكاليف الحقيقية.

ويمكن للمؤسسات المالية تسهيل العملية من خلال سياسات الإقراض التي تحابي بصورة متزايدة شركات الإنتاج الزراعي والغذائي المستدامة بهدف تعميمها. وفي هذا السياق، يجب أيضًا أن تكون الطريقة التي تصنف بها وكالات التصنيف الائتماني الشركات على أساس الجدارة الائتمانية متكيفة مع الواقع الجديد؛ إذ يجب أن تدرج التكاليف والمنافع والمخاطر والأصول من منظور غير مالي في أي تقييم. ومن الأمثلة على كيفية تطبيق ذلك على أرض الواقع صندوق Agri3 لدعم الزراعة المستدامة وصون الغابات.65 ويهدف هذا الصندوق إلى جمع ما يصل إلى مليار (1) دولار أمريكي من التمويل العام والخاص من خلال "توفير أدوات تعزيز الائتمان والمساعدة الفنية من أجل تمكين الانتقال إلى ممارسات أكثر استدامة في سلاسل القيمة الزراعية وتجنب إزالة الغابات".66 بيد أنّ إمكانية توسيع نطاق المبادرات المماثلة ترتبط بتوفر الأدوات والبيانات المدعومة ببحوث دقيقة من أجل تقييم أداء المستفيدين المحتملين.

back to top