تحديد نطاق عمليات التقييم المحددة الأهداف
على نقيض عمليات التقييم الواسعة النطاق المنفذة على المستوى الوطني الواردة في الفصل الثاني، تتيح عمليات التقييم المحددة الأهداف إجراء تقييم لآثار بعض السياسات المحددة للنظم الزراعية والغذائية أو الأعمال التجارية الزراعية والغذائية. كما يمكنها كشف قيمة خدمات النظام الإيكولوجي – التي عادة ما تغفل عنها عمليات التقييم الواسعة النطاق بسبب محدودية البيانات (انظر الفصل الثاني) – لكي يتسنى تحويلها إلى قرارات، فضلًا عن تقديم توصيات بشأن كيفية الانتقال إلى تطبيق ممارسات تجعل النظم الزراعية والغذائية أكثر إنصافًا واستدامة. وإندونيسيا مثال على ذلك، حيث تمكنت دراسة تتعلق بحساب التكاليف الحقيقية من إقناع الحكومة بإدراج الحراجة الزراعية للكاكاو في خطتها الخمسية للتنمية المعدّة لعام 2020. 7،6
وقد استندت تلك الدراسة إلى إطار التقييم الخاص ببرنامج اقتصاديات النظم الإيكولوجية والتنوع البيولوجي في مجال الزراعة والأغذية (البرنامج)، الذي يقدّم الدعم على أوسع نطاق، على النحو الوارد في الفصل الأول، حين يتعلق الأمر بعمليات التقييم المحددة الأهداف، وجرى تطبيقه مرات عديدة في القطاعين العام والخاص على حد سواء في العديد من البلدان. ويبحث الإطار 10 المبادئ التوجيهية الثلاثة لإطار التقييم – العالمية والشمولية والإجمالية – التي ينبغي أن ترتكز إليها عمليات التقييم المحددة الأهداف لحساب التكاليف الحقيقية.
الإطار 10المبادئ التوجيهية لإطار التقييم الخاص ببرنامج اقتصاديات النظم الإيكولوجية والتنوع البيولوجي في مجال الزراعة والأغذية
لدى إطار التقييم الخاص بالبرنامج ثلاثة مبادئ توجيهية هي:8 العالمية – يطبق الإطار لتقييم النظم الزراعية والغذائية في أي سياق جغرافي أو إيكولوجي أو اجتماعي؛ والشمولية – حيث يشمل جميع مكونات النظم الزراعية والغذائية؛ والإجمالية – حيث يدعم العديد من الطرق التحليلية.
ويضمن مبدأ العالمية وضع تعريف ووصف موحدين ومنهجيين ومتسقين للعناصر التي يتم النظر فيها وتقديرها في كل واحدة من عمليات التقييم. وهذا الأمر ضروري من أجل تجنب القيود التي تنطوي عليها نماذج التقييم المنعزلة، مثل تلك التي تُستخدم في تقييم النظم الزراعية بالاستناد فقط إلى إنتاجية الأراضي أو كفاءة استخدام المياه أو الطاقة. وتغفل هذه النماذج عن النواحي الأخرى للاستدامة أو الإنصاف التي تتعلق، لكن ليست محددة، بالمسائل التي تبحثها عمليات التقييم المنعزلة.
ويضمن مبدأ الشمولية أن تكون جميع التكاليف والمنافع المستترة (ذات الصلة) جزءًا من التقييم، بما فيها التبعيات والآثار على المستويات الأولية والنهائية التي تؤثر على مختلف أصحاب المصلحة.
أمّا مبدأ الإجمالية فيسلّم بأنّ العديد من أدوات وطرق التقييم السوقية وغير السوقية، بما فيها الكمية والنوعية،8 يمكنها تقييم التكاليف المستترة للنظم الزراعية والغذائية. وبينما يمكن قياس العديد من التدفقات والمخزونات بقيمتها النقدية، لكن لا يمكن قياس جميع نواحي رفاه الإنسان بتلك القيمة. وبالطبع، قد لا يكون التقييم النقدي ممكنًا، في سياقات مختلفة، أو مناسبًا من الناحية الأخلاقية، في حين قد يوفر قياس الناحية النوعية أو الفيزيائية أو غير النقدية رؤىً قيّمة.9
وعليه، فإنّ إطار التقييم الخاص بالبرنامج يسمح بتعدد منظورات القيمة وتقنيات التقييم. وبالتالي يمكن استخدامه لإجراء عمليات تقييم على المستوى الوطني (على النحو الوارد في الفصل الثاني)، لكنه يوسّع نطاق التحليل من خلال إجراء عمليات تقييم محددة الأهداف بصورة أكبر بحيث تعترف بالسياق المحلي ضمن البلدان.
ومن العناصر المهمة في إعداد تقييم محدد الأهداف هو تحديد نطاق التحليل من أجل الحفاظ على جدوى الدراسة وتمكينها من تحقيق هدفها كما يجب. وتبدأ هذه الخطوة باختيار الوحدة الوظيفية للتحليل، أي الشيء الذي يجري تقييمه أو قياسه.10 ويصف الشكل 12 مجالات الوحدات الوظيفية المتنوعة – النظم الزراعية والغذائية والأنماط الغذائية والاستثمارات والمنظمة والمنتج – وصلتها بتحويل النظم الزراعية والغذائية نحو الاستدامة.
الشكل 12 الوحدات الوظيفية الخمس الشائعة الاستخدام ونطاقها ومدى أهميتها
ويجري تحديد نطاق التحليل بصورة أدق من خلال رسم حدود جغرافية وزمنية. إذ تضع الحدود الجغرافية الدراسة ضمن منطقة جغرافية محددة مثل بلد أو إقليم فرعي. ومثال على ذلك دراسة تعكف على تقييم مختلف الأنماط الغذائية في الولايات المتحدة،11 وأخرى تحلل إنتاج اللحوم في ألمانيا،12 وثالثة تدرس إنتاج الأرزّ في تايلند.13 وتشير الحدود الزمنية في دراسة حساب التكاليف الحقيقية إلى النطاق الزمني للنتائج، بما في ذلك خط الأساس للبيانات المستخدمة والسياسات التي جرى تقييمها، فضلًا عن التسلسل الزمني المستخدم في تحليل السيناريو.14 والخلاصة هي أنّ أي تقييم محدد الأهداف سيكون حتمًا لمحة جزئية ومنقوصة عن الواقع، محصورة بمجموعة مسبقة من الحدود ضمن فترة زمنية معينة.
وسيعتمد اختيار الوحدة الوظيفية على محور تركيز السياسات أو موضوع البحث. وبوجه عام، فإنّ حدود التحليل التي تضم المستوى العالي من النظم الزراعية والغذائية وتشمل العديد من الجهات الفاعلة هي الأنسب بالنسبة إلى صانعي السياسات، فهي أكثر شمولًا وتنظر في احتمال توجيه الأثر النظمي.14 وقد استند الفصل الثاني إلى أعلى وحدة وظيفية (النظم الزراعية والغذائية الوطنية) من أجل تقييم التكاليف المستترة للنظم بأكملها في 154 بلدًا. وبالرغم من أهمية التحليلات في حفز التغيير، إلّا أنّ التحليلات على المستوى النظمي لا تزال مجمَّعة ولا توفر الكثير من التفاصيل.
ويتطلب عادة تنشيط الأدوات المساعدة على التغيير إجراء تحليل بقدر أعلى من التفصيل. وغالبًا ما يستدعي ذلك أن يكون المنتج أو الاستثمار هو الوحدة الوظيفية اللازمة لإرشاد القرارات العملية. وعلى سبيل المثال، يقيّم الإطار 11 تأثير التغيرات في إنتاج الأرزّ، وبالتالي فقد اختير المنتج كوحدة وظيفية. ومع ذلك، كان يتعين أيضًا إجراء التقييم على المستوى الإقليمي بهدف تكميل نتائج التقييم على مستوى المزرعة، من أجل تحديد النطاق الكامل للتأثيرات والعوامل الخارجية والتبعيات التي تقع خارج نطاق المزرعة، مثل التأثير على الأمن الغذائي.13
الإطار 11تقييم برنامج اقتصاديات النظم الإيكولوجية والتنوع البيولوجي في مجال الزراعة والأغذية لإنتاج الأرزّ في شمال شرق تايلند
جرى استخدام إطار التقييم الخاص بالبرنامج من أجل تحديد التكاليف والمنافع المتنوعة الناجمة عن توسيع إنتاج الأرزّ العضوي في تايلند. وكان الهدف هو تحديد الخيارات المتاحة لتعزيز الإنتاج المستدام الطويل الأجل وإدارة المناظر الطبيعية التي يزرع فيها الأرزّ. وقد أجري التحليل في يونيو/حزيران 2022 وأخذ في الاعتبار التكاليف المستترة في رؤوس الأموال الأربعة جميعها: الطبيعي (انبعاثات غازات الاحتباس الحراري والتنوع البيولوجي) والبشري (تأثير تلوث الهواء ومبيدات الآفات على الصحة والسعادة والرفاه) والاجتماعي (التعاون والثقة والسلوك الاجتماعي الإيجابي والطوعي) والإنتاجي (الإيرادات والنفقات الناجمة عن زراعة الأرزّ التقليدية مقارنة بتلك الناجمة عن زراعة الأرزّ العضوي).
وقد اقترح التحليل أربعة سيناريوهات من أجل توضيح أوجه التآزر والمفاضلات المحتملة في مختلف طرق زراعة الأرزّ على مدى الفترة 2019–2035، آخذًا في الاعتبار السياسات والغايات الحكومية، بالإضافة إلى آراء أصحاب المصلحة المحليين – بمن فيهم المسؤولون الزراعيون المحليون والمزارعون والمصارف. وكان أحد تلك السيناريوهات هو العمل كالمعتاد، بصفته خط الأساس، في حين تناولت السيناريوهات الثلاثة الأخرى التدرج في اعتماد إنتاج الأرزّ العضوي والممارسات المستدامة الأخرى. وجرى قياس كل سيناريو على مدى ثلاثة أطر زمنية: الأجل القصير (2025) والأجل المتوسط (2030) والأجل الطويل (2035).
وقامت الدراسة بتطبيق تحليل الكلفة مقابل المنافع على نتائج السيناريوهات الأربعة، فوجدت أنّ توسيع مساحة زراعة الأرزّ العضوي بحسب السيناريوهات الثاني والثالث والرابع (مقارنة بالسيناريو الأول) قد درّ منافع على البيئة (نتيجة القدر القليل من انبعاثات غازات الاحتباس) وعلى صحة الإنسان (بفضل قلة التعرّض للمبيدات والتلوث الجوي). وتراوحت قيمة المنافع الصافية التي عادت على صحة الإنسان بين 438 مليون دولار أمريكي في السيناريو الثاني و4 146 مليون دولار أمريكي في السيناريو الرابع. وكان صافي المنافع البيئية المحققة يتراوح بين مليوني دولار أمريكي في السيناريو الثاني و16 مليون دولار أمريكي في السيناريو الرابع. بيد أنّ ذاك التوسع سبّب أيضًا خسارة صافية في الإيرادات – تراوحت بين 29 مليون دولار أمريكي في السيناريو الثاني و389 مليون دولار أمريكي في السيناريو الرابع. وبعبارة أخرى، تمثل هذه الخسارة أقل من 1 في المائة من الإيرادات الصافية المتوقعة في سيناريو العمل كالمعتاد والتي تبلغ قيمتها 57 مليار دولار أمريكي.
لكن كان من المقدّر أنّ الخسائر في الإيرادات الناجمة عن تراجع الغلات يمكن تعويضها إذا زادت أسعار الأرزّ العضوي بنسبة 3.5 في المائة عن أسعار الأرزّ التقليدي. وبناءً على هذه النتائج، أوصى التحليل بتوجيه الإعانات نحو المزارعين بهدف تشجيعهم على اعتماد الممارسات الزراعية المستدامة، بما فيها زراعة الأرزّ العضوي. وكانت تلك التوصية متعلقة بصفة خاصة بالفترة الانتقالية، حيث سيكون المزارعون بحاجة إلى قدر أكبر من الدعم، في ظلّ توقع انخفاض غلات الأرزّ العضوي بشكل طفيف على المديين القصير والمتوسط. علاوة على ذلك، قد يكون من الضروري تعزيز التصدير بغية دعم الطلب على كميات أكبر من الأرزّ العضوي، ومثال على ذلك السياسات والمعايير المتعلقة بإصدار الشهادات، مثل سياسات تشجع على تجميع المزارعين في مجالات معينة معتمدة على أنها عضوية من أجل تشاطر كلفة إصدار الشهادات.
علاوة على ذلك، إذا كان الشاغل السياسي هو تعزيز الأنماط الغذائية الصحية، فسيكون من الملائم أكثر استخدام الأنماط الغذائية كوحدة وظيفية. كما يمكن أيضًا اللجوء إلى استخدام المنظمة كوحدة وظيفية في بعض الحالات. ومع أنّ المنظمة تُستخدم في الغالب في القطاع الخاص، إلّا أنّ اعتمادها كوحدة وظيفية قد يوفر رؤىً قيّمة إذا كان هدف السياسة هو تحديد المجالات التي تحتاج فيها الأعمال التجارية إلى الدعم، سواء في إجراء حساب التكاليف الحقيقية بعينها أو في الحد من آثارها السلبية.14
تحليل السياسات والسيناريوهات: أدوارها الأساسية والتكميلية في عمليات التقييم المحددة الأهداف لحساب التكاليف الحقيقية
يتسم تحليل السيناريوهات بأنه وظيفة بالغة الأهمية في أي عملية حساب للتكاليف الحقيقية، بصرف النظر عن حدود التحليل. وفي هذا التقرير، تُعرّف السيناريوهات على أنها تمثيل لحالات مستقبلية محتملة قد تقع لمكوّن أو أكثر من مكونات النظام قيد الدراسة، استنادًا إلى خيارات سياسية أو إدارية بديلة. وسواء أكان المجال الذي يطبّق فيه حساب التكاليف الحقيقية هو النظم الزراعية والغذائية الوطنية أم الأنماط الغذائية المحلية أم الاستثمارات العامة أم سلسلة القيمة، فإنّ تحليل هذه السيناريوهات يشتمل على مقارنة المسارات المستقبلية المحتملة وتقييم أثر مختلف الخيارات السياسية أو الإدارية وفعاليتها.15 ويهدف تحليل السيناريوهات إلى الإجابة على الأسئلة التالية: ماذا سيحدث في حال عدم اتخاذ أي إجراء؟ هل ستتفاقم المشكلة؟ وبأي وتيرة؟ كم ستكون كلفة عدم التحرّك؟ وسيتمكن تحليل السيناريوهات بعد الإجابة على هذه الأسئلة من تحديد المسائل الناشئة عن عدم التحرّك ويستطلع خيارات بديلة للعمل الذي قد يؤدي إلى تحسين النتائج، فضلًا عن أوجه التآزر والمفاضلات. ويمكن عندها تقييم تلك المفاضلات بعناية من أجل صياغة استراتيجيات أكثر إحكامًا وتقييم فعالية الإجراءات المتنوعة المحتملة.
ويستند تحليل السياسات إلى تحليل السيناريوهات ويكمّله – من أجل تقييم الخيارات السياسية المختلفة المقترحة والمقارنة بينها، بالإضافة إلى قدرتها النسبية على تحقيق أهداف سياسية محددة. وبمعنى آخر، يستخدم تحليل السياسات السيناريوهات لكي يحدد، من سياسات مستعرضة مسبقًا، الخيارات التي من المرجح أن تكون ذات جدوى اقتصادية وفعالة في تحقيق النتيجة السياسية المنشودة، وفقًا للموارد المقدرة المطلوبة للتنفيذ والموارد المتاحة على أرض الواقع. وفي سياق رسم السياسات، يجري تطبيق تحليل السيناريوهات في ما يتعلق بعملية صنع القرار المبينة في الشكل 13 15. ويعدّ تحديد المشاكل (سيناريو عدم التحرك) وصياغة السياسات وتقييمها (سيناريوهات العمل من أجل تحليل السياسات) من مراحل عملية صنع القرار السابقة لمرحلة التنفيذ، التي تتبعها مرحلتا الرصد والتقييم.
الشكل 13 دور السيناريوهات في توجيه عملية رسم السياسات
والمرحلة الأولى في استخدام السيناريوهات في عملية رسم السياسات هي تحديد المشاكل. وفي هذه المرحلة، يمكن للسيناريوهات الاستكشافية أن تبحث في مجموعة من الحالات المستقبلية المجدية استنادًا إلى اتجاهات محتملة في الدوافع، مثل العوامل المناخية والاجتماعية الاقتصادية والفيزيائية الأحيائية والتكنولوجية. ومن شأن هذه السيناريوهات أن تجعل صانعي السياسات على دراية بخط الأساس (أي الوضع الراهن) والدوافع الرئيسية للتغيير في سيناريو عدم التحرّك (سيناريو العمل كالمعتاد). وتعتمد هذه السيناريوهات على مدخلات مستقاة من نهج متعدد أصحاب المصلحة يشتمل على الجهات الفاعلة العديدة المعنية، وبالتالي فهو يضم مختلف المنظورات والخبرات، ما يدعم تكوين فهم أكثر شمولًا للنظم الزراعية والغذائية. ويتمثل هدف هذه المرحلة في تخطيط العلاقة بين النظم الزراعية والغذائية ورؤوس الأموال الأربعة، تمثلها أكبر التدفقات المحققة في محتوى محدد، مثل آثار النظم الزراعية والغذائية على انبعاثات غازات الاحتباس الحراري وصحة الإنسان وتوزيع الدخل.8
ويوضح الإطار 12 تحليل السيناريوهات المستخدم في مقارنة استهلاك الأغذية الحالي والمستقبلي – باتباع سيناريو العمل كالمعتاد – وسيناريوهات استهلاك بديلة مصمَّمة لتكون صحية ومستدامة بصورة أكبر.
الإطار 12تحليل السيناريوهات من أجل كشف التكاليف الصحية والبيئية المستترة المتكبدة عند اتباع أنماط غذائية مختلفة
أجرى (Springmann, 2020)16 تحليلًا ليكون بمثابة وثيقة معلومات أساسية لمنظمة الأغذية والزراعة وآخرين (2020)،17 حيث قدّر التكاليف المستترة الناشئة عن نماذج الأنماط الغذائية والمتعلقة بالصحة والمناخ بحلول عام 2030. وقام بمقارنة استمرار الأنماط الغذائية الحالية (أنظر الشكل 12) مع أربعة سيناريوهات استهلاك بديلة مصمَّمة لتكون صحية ومستدامة بصورة أكبر (النمط الغذائي المرن، والنمط الغذائي السمكي، والنمط الغذائي النباتي، والنمط الغذائي النباتي التام). وكان الهدف هو قياس النسبة التي يمكن بها خفض تلك التكاليف، وبالتالي، تنوير السياسات الغذائية لتحفيز التغيّرات في الأنماط الغذائية نحو نظم غذائية صحية أكثر استدامة من الناحية البيئية.
وأظهرت النتائج أنه في حال تواصلت الأنماط الحالية لاستهلاك الأغذية، فمن المتوقع أن تتجاوز التكاليف الصحية المتصلة بالنمط الغذائي والمرتبطة بالوفيات والأمراض غير المعدية مبلغ 1.3 تريليونات دولار أمريكي سنويًا بحلول عام 2030. ومن جهة أخرى، من المتوقع أن يتمخض التحوّل إلى أنماط غذائية صحية عن انخفاض يصل إلى نسبة 97 في المائة في التكاليف الصحية المباشرة وغير المباشرة، فيولّد وفورات كبيرة يمكن استثمارها لخفض كلفة الأغذية المغذية. أما بالنسبة إلى التكاليف المتعلقة بالمناخ، فمن المتوقع أن تتجاوز انبعاثات غازات الاحتباس الحراري المرتبطة بالأنماط الغذائية الحالية مبلغ 1.7 تريليونات دولار أمريكي سنويًا بحلول عام 2030. ومع ذلك، فإنّ اعتماد نظم غذائية بديلة من شأنه أن يخفض هذه الكلفة بنسبة مقدرة بين 41 و74 في المائة في عام 2030، بحسب السيناريو المتّبع.
ويمكن أن تساعد هذه السيناريوهات الاستكشافية على إعادة صياغة المشكلة من أجل وضع خطة سياسية أكثر فعالية. وتحتوي عادة تلك السيناريوهات على مكونات نوعية وكمية وغالبًا ما يجري دمجها مع مناهج تشاركية تضم أصحاب المصلحة المحليين والإقليميين. وعلى سبيل المثال، يمكن استخدام توقعات النمو السكاني لتقدير التغيّرات المتوقعة في الغطاء الأرضي عند دراسة الاتجاهات في التوسع الزراعي أو الحضري.
أما المرحلة التالية من عملية صنع القرار فهي صياغة السياسات، وهو أمر بالغ الأهمية لكي يكون التقييم المستهدف كبير الأثر. وبالاستناد إلى المدخلات المستقاة من سيناريو العمل كالمعتاد في مرحلة تحديد المشاكل، يمكن تحديد الأهداف المحفزة على التغيير المؤدي إلى تحقيق المزيد من النتائج المنشودة، على أن تكون تلك الأهداف مستندة إلى الأهداف الوطنية أيضًا. ويمكن بعد ذلك استخدام سيناريوهات البحث عن الأهداف لاستعراض أهداف السياسة وصياغتها، اعتمادًا على فعاليتها وقابليتها للتطبيق.
ومن ثم يجري في مرحلة تقييم السياسات استعراض مسبق للسياسات المحددة، باستخدام سيناريوهات استعراض السياسات التي تقيّم كيف يمكن لأداة سياسية ما (أو مجموعة من الأدوات مثل الحوافز أو التفويضات أو الاستثمارات المباشرة أو التوعية) أن تغيّر المستقبل.18 ويتيح ذلك تكوين فهم وتوقع أفضل لنتائج تنفيذ السياسة المحددة، عن طريق استطلاع الروابط وأوجه التكافل ضمن النظم المستهدفة بتلك السياسة وفي ما بينها. وتضم المعايير التي يمكن اتباعها من أجل انتقاء الأداة السياسية المحددة ما يلي: (1) المدى الذي سيكون عنده تحقيق الهدف المذكور مجديًا اقتصاديًا وما إذا كان ظهور دليل تقييم جديد قد يدعم اعتماد سياسة جديدة؛ (2) والاقتصاد السياسي – من يؤيد التغيير، ومن يعارضه، وما هو تأثير كل من الطرفين؛ (3) ومن الذي قد يكسب من التغيير، ومن قد يخسر بسببه، وهل ستوفر السياسة الجديدة خيارات لسبل عيش المجتمعات المحلية أو قطاعات المجتمع التي لا تملك الكثير من البدائل. ويمكن أن تستنير الاعتبارات باستخدام الأساليب النوعية والكمية، بما في ذلك نماذج المحاكاة، وكذلك حلقات العمل الاستشارية المشتركة بين أصحاب المصلحة والخبراء. ويقدم الإطار 13 مثلًا مستمدًا من إندونيسيا على الطريقة التي يمكن فيها استخدام سيناريوهات استعراض السياسات في سياق السياسات الفعلي (أنظر الإطار 11 للاطلاع على مثال آخر من تايلند).
الإطار 13استخدام تحليل السيناريوهات في سياق سياسي واقعي: مثال من إندونيسيا
السؤال الرئيسي الذي يُطرح على مستوى السياسات عند تحليل السيناريوهات المتعلقة بتحويل النظم الزراعية والغذائية هو الآتي: كيف يمكن تحسين الاستدامة في القطاعات؟ وكان هذا هو السؤال المطروح في إندونيسيا، حيث يُعتبر الكاكاو من المحاصيل المهمة، إذ يساهم في زيادة إيرادات التصدير وفرص العمل، إلّا أنّ ممارسات زراعة المحصول الواحد تهدد استدامته.20،19 وقد أجريت دراسة تابعة للبرنامج في شمال مقاطعة لوو الواقعة في جنوب إقليم سولاويسي حيث استخدمت تحليل السيناريوهات مركزة على الآثار والتبعيات الناجمة عن إنتاج الكاكاو، بما في ذلك أنشطة التجهيز والتوزيع والاستهلاك وعلاقتها بالنظم الإيكولوجية.7 وقامت بمقارنة الآثار الاجتماعية والبيئية الناجمة عن نظم إنتاج الكاكاو عن طريق زراعة المحصول الواحد وإنتاج الكاكاو عن طريق الحراجة الزراعية من أجل إعداد سياسات الزراعة واستخدام الأراضي التي من شأنها أن تبني قدرتها على الصمود وتحسّن جدواها الاقتصادية.
وقامت الدراسة بصفة خاصة بتحديد القيمة الاقتصادية الإجمالية لإنتاج الكاكاو في إطار زراعة المحصول الواحد وممارسات الحراجة الزراعية. كما أجرت تقييمًا لتبعات سيناريوهات التوسّع في الحراجة الزراعية للكاكاو. وبغية تحقيق هذا الهدف، جرى تطبيق مجموعة من نماذج المحاكاة الديناميكية لتقييم القيمة الاقتصادية الإجمالية في مناطق معينة بين عامي 2021 و2050.
ويقارن التقييم التكاليف والمنافع المحتملة الناجمة عن سيناريو العمل كالمعتاد (زراعة المحصول الواحد) مع تلك الناجمة عن سيناريو بسيط للزراعة الحراجية وسيناريو معقّد للزراعة الحراجية. وبغية تنفيذ السيناريو المعقّد، جرى النظر في اثنين من التدخلات السياساتية واختبارهما في سيناريوهات استعراض السياسات: (1) توفير الشتلات لنظام الحراجة الزراعية جنبًا إلى جنب مع خدمات الإرشاد المحددة الأهداف والتدريب على الممارسات الزراعية الجيدة؛ (2) وتعزيز إصدار الشهادات والتوسيم الإيكولوجي. وقد صُممت سيناريوهات إنتاج الكاكاو هذه باستخدام مجموعة شاملة من النماذج البيئية والفيزيائية الحيوية والإحصائية والاجتماعية والاقتصادية.
وتُظهر نتائج هذا الإجراء أنّ الحراجة الزراعية للكاكاو توفر قيمة اقتصادية إجمالية أعلى من زراعة المحصول الواحد والزراعة البينية للكاكاو. وتأتي المنافع من مجموعة متنوعة من المصادر، بما في ذلك انخفاض معدلات تآكل التربة وارتشاح المغذيات وارتفاع معدلات تخزين الكربون في نظم الحراجة الزراعية المفترضة، ما يؤدي إلى منافع اجتماعية وفردية على حد سواء (خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري وزيادة إنتاجية المحاصيل). بالإضافة إلى ذلك، سيتمكن المزارعون من تحسين دخلهم الفردي عند قياس جميع منتجات الحراجة الزراعية الممكنة ويمكنهم تعزيز قدرتهم على الصمود من خلال تنويع دخلهم.
وبالرغم من هذه المنافع، لا يزال اعتماد الحراجة الزراعية للكاكاو محدودًا للغاية. وتشير الدراسة إلى الحاجة إلى بناء القدرات على تطبيق الممارسات الزراعية الجيدة على أنها أولوية رئيسية، وهي تشير أيضًا إلى ضرورة وضع حوافز للوصول إلى نظم زراعة حراجية عالية الجودة.
وأخيرًا، لا بدّ من تصنيف سيناريوهات استعراض السياسات لكي تسترشد بها القرارات. ويمكن أن يستند التصنيف إلى تحليل الكلفة مقابل المنافع أو الكلفة مقابل الفعالية، بالاقتران مع تحليل متعدد المعايير. وفي حين أنّ تحليل الكلفة مقابل المنافع يقارن بين المنافع والتكاليف الناجمة عن مختلف التدخلات ويحدد جدواها الاقتصادية والمالية، فإنّ نهج الكلفة مقابل الفعالية يقارن بين التكاليف المتكبدة من أجل تحقيق هدف معين عند استخدام خيارات مختلفة من التدخلات، مثل كلفة كل طنّ من الانبعاثات التي أمكن تجنبها من خلال كفاءة الطاقة والطاقة المتجددة والحد من إزالة الغابات. وتتسم هذه الطرق في تصنيف النتائج بأنها ذات أهمية خاصة عند استطلاع خيارات مختلفة لخفض التكاليف المستترة للنظم الزراعية والغذائية، لأنه بالرغم من أنّ كلفة التحويل (أي كلفة التخفيض) ضرورية من أجل اتخاذ قرارات فعالة، إلّا أنها ليست جلية للعيان على الدوام.
وفي بعض الحالات، لا يمكن تقدير بعض التكاليف المستترة بمبالغ نقدية، ولكنها تُعتبر جوهرية من أجل اتخاذ قرار على مستى السياسات – وبعبارة أخرى، تُعتبر ذات مغزى في سياق اتخاذ قرار معين (انظر المسرد للاطلاع على تعريف "الأهمية النسبية"). وفي تلك الحالات، يمكن استخدام كل من تحليل الفعالية من حيث الكلفة، وتحليل متعدد المعايير (الذي يجمع بين المؤشرات النوعية والكمية) لتحديد مقدار القيمة المجتمعية التي ستتولَّدها التدخلات المختارة وما إذا كان تنفيذها مجديًا. وفي نهاية المطاف، يجب أن تراعي تحليلات حساب التكاليف الحقيقية جميع المؤشرات المادية، بما فيها التأثيرات القابلة وغير القابلة للتقدير من الناحية النقدية. والهدف من ذلك هو حساب جميع التكاليف والمنافع الناجمة عن أي استثمار أو تغيير مقترح في السياسة على مدى المستقبل المنظور، بحيث يتسنى إجراء تقييم للنقطة التي تتجاوز فيها المنافع التكاليف.
ويجري اتخاذ القرارات على مستوى السياسات وتنفيذها، بالاستناد إلى نتائج تحليل السيناريوهات، على النحو الموضح في الشكل 13. وينبغي أن يلي ذلك عمليات رصد وتقييم بغية تقييم الجهود التي بذلت سابقًا من أجل تحقيق أهداف السياسات في جميع مراحل دورة السياسات وفي سياق صنع القرارات. وتعتمد عمليات التقييم هذه أيضًا على السيناريو الاستكشافي وسيناريو البحث عن الأهداف وسيناريو استعراض السياسات لتقييم ما يلي: (1) هل تمّ حل المشكلة المحددة (2) وهل تحققت الأهداف المحددة (3) وكيف كان أداء كل تدخّل قياسًا إلى المؤشرات المحددة.