لا يعرف الناس والأعمال التجارية والحكومات دائمًا وبصورة يومية ما هي عواقب القرارات التي يتخذونها على استدامة النظم الزراعية والغذائية – سواء أكانت هذه العواقب إيجابية أو سلبية. فمن جهة، تحقق النظم الزراعية والغذائية منافع حيوية للمجتمع لأسباب ليس أقلها أنها تنتج الأغذية التي تغذينا وتوفر فرص العمل وسبل العيش لأكثر من مليار شخص. وبالتالي، فمن المرجح أن تكون القيمة التي تولّدها النظم الزراعية والغذائية للمجتمع أكبر بكثير من القيمة التي تقاس بالناتج المحلي الإجمالي. ومن جهة أخرى، تترتب عن إخفاقات السوق والسياسات والمؤسسات التي تقوم عليها النظم الزراعية والغذائية تكاليف مستترة من مثل تغيّر المناخ، وتدهور الموارد الطبيعية، وعدم القدرة على تحمّل كلفة الأنماط الغذائية الصحية. وبالتالي، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: كيف يمكننا أن نحوّل النظم الزراعية والغذائية لكي تحقق قيمة أكبر للمجتمع؟ بمعنى آخر، كيف يمكننا أن نخفف من آثار تكاليفها المستترة ونحسّن منافعها المستترة؟
ويركّز هذا الإصدار من تقرير حالة الأغذية والزراعة على الكلفة الحقيقية للنظم الزراعية والغذائية. ومن خلال تعريف مفهوم التكاليف والمنافع المستترة للنظم الزراعية والغذائية وتوفير إطار يمكن من خلاله تقييم هذه التكاليف والمنافع، يسعى التقرير إلى إطلاق عملية من شأنها أن تهيّئ صانعي القرار بشكل أفضل لاتخاذ الإجراءات الرامية إلى توجيه النظم الزراعية والغذائية نحو تحقيق الاستدامة البيئية والاجتماعية والاقتصادية.
مراعاة تكاليف النظم الزراعية والغذائية ومنافعها في اتخاذ القرارات
حساب تكاليف النظم الزراعية والغذائية ومنافعها لتحقيق أهداف التنمية المستدامة
بات هناك إجماع دولي حول الفكرة القائلة إن تحويل النظم الزراعية والغذائية – لكي تصبح أكثر كفاءة وشمولًا واستدامة وقدرة على الصمود – هو شرط أساسي لتحقيق خطة التنمية المستدامة لعام 2030. وفي هذا الصدد، يشكل إجراء تقييم شامل للنظم الزراعية والغذائية في عملية صنع القرارات أمرًا حاسمًا لتحقيق العديد من أهداف التنمية المستدامة، إن لم يكن جميعها.
وترتبط تفاعلات النظم الزراعية والغذائية مع البيئة والاقتصاد والتغذية والصحة والمجتمع في نهاية الأمر بأهداف التنمية المستدامة. ويتسم تأثير تحويل النظم الزراعية والغذائية على الأهداف 1 (القضاء على الفقر) و2 (القضاء التام على الجوع) و3 (الصحة الجيدة والرفاه) من أهداف التنمية المستدامة بأهمية خاصة بسبب ما للنظم الزراعية والغذائية من صلة بالإنتاجية الزراعية، وسبل العيش في المناطق الريفية، والصحة، والأمن الغذائي، والتغذية. وينطوي التحوّل إلى نظم زراعية وغذائية مستدامة نتيجة تحسّن عملية صنع القرارات أيضًا على إحراز تقدم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة 6 (المياه النظيفة والنظافة الصحية) و7 (طاقة نظيفة وبأسعار معقولة) و12 (الإنتاج والاستهلاك المسؤولان)، و13 و14 و15 المتعلّقة بالعمل المناخي والحياة تحت الماء والحياة في البرّ على التوالي. وسيتوقف هذا التحوّل على التكنولوجيات الجديدة التي يمكنها أن تشكل عاملًا محفّزًا للتقدم باتجاه تحقيق الهدف 9 (الصناعة والابتكار والبنية التحتية) من أهداف التنمية المستدامة. ويمكن لهذا التحوّل، من خلال تقييمه طريقة تشكيل رأس المال البشري ومعاملته، أن يساهم أيضًا في تحقيق العمل اللائق والنمو الاقتصادي (الهدف 8 من أهداف التنمية المستدامة) وأن يحد أيضًا من عدم المساواة بين الجنسين (الهدف 5).
حساب التكاليف الحقيقية دعمًا لتحويلالنظم الزراعية والغذائية
يتيح نهج حساب التكاليف الحقيقية فرصة غير مسبوقة لإجراء عمليات التقييم الشاملة هذه – وهو يُعرّف على أنه نهج شامل ونظامي لقياس وتثمين التكاليف والمنافع البيئية والاجتماعية والصحية والاقتصادية التي تولّدها النظم الزراعية والغذائية من أجل تسهيل اتخاذ قرارات أفضل من جانب واضعي السياسات، والأعمال التجارية، والمزارعين، والمستثمرين، والمستهلكين.
ويسمح هذا التعريف الواسع باعتماد مجموعة متنوعة من الأساليب تبعًا لموارد البلدان وبياناتها وقدراتها ونظم الإبلاغ لديها. ولا يشكل حساب التكاليف الحقيقية مفهومًا جديدًا، وإنما هو نهج مطوّر ومحسّن يتجاوز تبادلات السوق لحساب جميع التدفقات إلى النظم الزراعية والغذائية ومنها، بما في ذلك التدفقات التي لا تقيسها معاملات السوق.
ومع أن نهج حساب التكاليف الحقيقية يعدّ نهجًا طموحًا ذلك أن تغطية جميع التكاليف والمنافع المستترة للنظم الزراعية والغذائية هي عملية تتطلب استخدامًا مكثفًا للموارد والبيانات، فإن الهدف منه هو مساعدة واضعي السياسات وأصحاب المصلحة الآخرين على تجنّب صنع القرارات من دون إجراء تقييم شامل. وفي هذا الصدد، يمكن حساب التكاليف الحقيقية صانعي القرار من الاستفادة بشكل عملي من البيانات والمعلومات المتوافرة بالفعل لتكوين فهم أوّلي للنظم الزراعية والغذائية، بما في ذلك أهم الفجوات القائمة في مجال البيانات، من أجل توجيه التدخلات بشكل أفضل.
تفسير آثار النظم الزراعية والغذائية وأوجهاعتمادها على المجتمع والبيئة الطبيعية
تتأثر النظم الزراعية والغذائية بقرارات السياسات والأعمال التجارية والمستهلكين. وتتوقف أنشطتها – وتؤثر أيضًا – على رأس المال الطبيعي والبشري والاجتماعي والإنتاجي الذي يشكل أساس رفاه الإنسان والنجاح الاقتصادي والاستدامة البيئية. وعلى سبيل المثال، يساهم رأس المال الطبيعي في نمو الكتلة الأحيائية ويوفر المياه العذبة للنظم الزراعية والغذائية. وفي المقابل، يمكن أن تؤثر النظم الزراعية والغذائية بشكل سلبي على رأس المال الطبيعي من خلال انبعاثات غازات الاحتباس الحراري والتلوث. وعلى النقيض من ذلك، إذا تم اعتماد الزراعة التجددية، يمكن لممارسات الإنتاج أن تساهم في إصلاح النظم الإيكولوجية. ويمكن لرأس المال الاجتماعي أن يساهم في النظم الزراعية والغذائية من خلال المعارف الثقافية وأن يشكل العادات المتعلّقة بالحصول على الموارد من قبيل الأراضي، بينما تقوم النظم الزراعية والغذائية في المقابل بتحقيق الأمن الغذائي والتغذية (أو انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية) تبعًا لمدى كفاءتها وقدرتها على الصمود وشمولها. أما رأس المال الإنتاجي، فيساهم في البحث والتطوير، في حين أنّ النظم الزراعية والغذائية تولّد في المقابل الدخل والأرباح والريع والضرائب.
ومع أن هذه التدفقات تبدو بديهية، لم يتم قياسها وإدارة آثارها ما عدا مع رأس المال الإنتاجي. وتتعلّق البيانات التي تدرج عادة في عمليات التقييم الاقتصادية بتدفقات رأس المال الإنتاجي وآثاره، وفي بعض الحالات، بتدفقات وآثار رأس المال البشري (مثل اليد العاملة والأجور) التي يتم التعامل معها من خلال آليات السوق، ويسهل بالتالي مراقبتها وقياسها وتحديدها تحديدًا كميًا. وفي المقابل، ليس من السهل مراقبة التدفقات والآثار المرتبطة برأس المال الطبيعي والاجتماعي والبشري (بجزء منه) وقياسها وتحديدها تحديدًا كميًا، ولذلك يتم إدراجها بشكل جزئي وغير منهجي إلى حد كبير في عمليات التقييم الاقتصادية. وعلى سبيل المثال، تنعكس المدخلات القائمة على السوق بشكل مباشر في أسعار الإنتاج الخاص التي يحددها المنتجون، على عكس مدخلات خدمات النظم الإيكولوجية (من قبيل المياه العذبة النظيفة والتلقيح) وذلك بالرغم من كونها أساسية للإنتاجية الزراعية.
ولكن، عندما يفتقر صانعو القرار إلى تقييم كامل لأنشطة النظم الزراعية والغذائية التي تؤثر على الموجودات الرأسمالية وتدفقاتها – المرتبطة بخدمات النظم الإيكولوجية مثلًا – فإنه يمكن للفجوة في المعارف الناجمة عن ذلك أن تحقق التقدم باتجاه إقامة نظم زراعية وغذائية أكثر استدامة. وهذا صحيح بشكل خاص لأن الآثار السلبية قد اكتست أهمية متزايدة بالرغم من بعض التقدم الإيجابي المحرز باتجاه تحسين الأمن الغذائي والتغذية. ويشار إلى الآثار السلبية التي لا تنعكس في سعر السوق لمنتج أو خدمة معيّنة في هذا التقرير باسم التكاليف المستترة. ولأغراض التبسيط – ونظرًا إلى أنه من المرجح أن تقوم الأسواق باستيعاب معظم المنافع – فإن مصطلح "التكاليف المستترة" المستخدم هنا يضم التكاليف المستترة الصافية ويشمل بالتالي المنافع المستترة المعبّر عنها على أنها تكاليف مستترة سلبية. ومن الأمثلة على التكاليف المستترة السلبية قيام المزارعين بتحويل المراعي/الأراضي الزراعية إلى أراضٍ حرجية، الأمر الذي من شأنه أن يخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري ولكن من دون أن يحصل المزارعون على تعويض عنه.
العوائق أمام دمج الآثار المستترة للنظم الزراعية والغذائية في عملية صنع القرارات
ليس من السهل دمج جميع التكاليف والمنافع المستترة في عمليات صنع القرارات نظرًا إلى المجموعة الواسعة من الآثار المرتبطة بالأنشطة الاقتصادية للنظم الزراعية والغذائية والعدد الكبير من أصحاب المصلحة المختلفين المتأثرين بها. ويواجه صانعو القرار أهدافًا متعارضة، بينما يمكن لمعالجة التكاليف المستترة للنظم الزراعية والغذائية أن تتطلب إحداث تغييرات كبيرة في ممارسات الإنتاج والاستهلاك الحالية، الأمر الذي قد تقابله مقاومة من جانب الحكومات والأعمال التجارية والمنتجين والمستهلكين الذين قد يفضلون الوضع القائم خوفًا من ارتفاع تكاليف المعاملات أو تغيير العادات أو الثقافة أو التقاليد.
ويتمثل سبب آخر لمقاومة التغيير في إمكانية بروز مفاضلات. وعلى سبيل المثال، يمكن لاستخدام المواد الكيميائية الزراعية من أجل زيادة الإنتاجية أن يحد من الفقر، ولكنه يؤدي أيضًا إلى تدهور البيئة مع مرور الوقت. ومن شأن ذلك أن يزيد من تعقيد القرارات المتعلّقة بالسياسات. وهناك أيضًا تباين كبير بين من يتلقى منافع النظم الزراعية والغذائية في العالم ومن يدفع التكاليف، أي الآثار الموزّعة للانتقال إلى أنماط جديدة للإنتاج والاستهلاك. ويمكن لتحويل النظم الزراعية والغذائية من أجل معالجة عوامل الإجهاد البيئة والمشاكل الصحية الرئيسية أن ينطوي أيضًا على مفاضلات مع التحسينات في الإنصاف الاجتماعي.
ويمكن أن تكون مقاومة التغيير مدفوعة بندرة البيانات والمعلومات المتوافرة. ويتمثل أحد التحديات المرتبطة بذلك في تحديد تكاليف التغيير في السياسات (أي تكاليف التخفيض) تحديدًا كميًا ومقارنتها بالمنافع التي يعود بها تقليص التكاليف المستترة من أجل المساعدة على تحديد اتجاه السياسات. ويطرح ذلك مسألة تحديد قيمة التكاليف بطريقة عملية. ولن يتم تحقيق قدر كافٍ من التقدم في تحويل النظم الزراعية والغذائية إذا بقيت الأساليب الرامية إلى تحسين تحديد كلفة التخفيض على حالها. فينبغي استثمار الموارد للإفصاح عن المعلومات ذات الصلة.
حساب التكاليف الحقيقية: فرصة لفهم النظم الزراعية والغذائية
يستند حساب التكاليف الحقيقية إلى مجموعة عمليات القياس القائمة التي تظهر في المعايير الإحصائية الدولية المعمول بها. وفي ما يتعلّق برأس المال الإنتاجي والطبيعي والتدفقات المتصلة بهما، تشمل هذه المعايير نظام الحسابات الوطني لقياس الأصول المنتجة وما يتصل بها من تدفقات الإنتاج والدخل والاستهلاك، فضلًا عن نظام المحاسبة البيئية الاقتصادية لقياس التدفقات والأصول البيئية.
ونظرًا إلى التحديات التي يطرحها جمع البيانات اللازمة وقياس التدفقات كافة عبر الرساميل الأربعة، تحتل البيانات والمعلومات المتوافرة بالفعل الأولوية لتكوين فهم أولي للنظم الزراعية والغذائية. ويمكن استخدام هذه التحليلات الأولية لبدء حوار مع أصحاب المصلحة المعنيين حول أهم التحديات في النظم الزراعية والغذائية والفجوات الأكثر إلحاحًا التي يجب سدّها في مجال البيانات من أجل توجيه التدخلات بشكل أفضل. وفي هذا الصدد، سيكون مبدأ "الأهمية النسبية" أساسيًا – ويعرّف على أنه مقياس لمدى أهمية معلومة معيّنة عند صنع القرارات. ويساعد مبدأ الأهمية النسبية على تركيز نطاق تقييمات حساب التكاليف الحقيقية على الآثار والتدفقات التي يمكنها أن تغيّر عمليات صنع القرارات. ومن شأن ذلك أن يحدد ما هي البيانات المهمة التي ليست متوافرة والتي يجب جمعها.
مقترح للتقييم على مرحلتين باستخدام حساب التكاليف الحقيقية
يقترح هذا التقرير في ضوء ما تقدّم، إجراء تقييم على مرحلتين باستخدام حساب التكاليف الحقيقية من أجل تزويد صانعي القرار بفهم شامل للنظم الزراعية والغذائية وتحديد مجالات التدخل لتحسين استدامتها. وتقضي المرحلة الأولى بإجراء عمليات تقييم أولية على المستوى الوطني لتحليل التكاليف المستترة للنظم الغذائية عبر مختلف الرساميل وقياسها قدر الإمكان باستخدام البيانات المتاحة بسهولة. ويتمثل الدور الرئيسي للمرحلة الأولى في رفع مستوى الوعي حول حجم التحديات القائمة.
أما المرحلة الثانية، فهي مكرسة لإجراء عمليات تقييم معمَّقة تستهدف مكونات أو سلاسل قيمة أو قطاعات محددة من النظم الزراعية والغذائية لتوجيه الإجراءات السياساتية والاستثمارات التحويلية في بلد معيّن. ويمكن لعملية الاختيار أن تكون مستوحاة من نتائج المرحلة الأولى وأن تسترشد أيضًا بالأولويات القطرية التي تحددها المشاورات مع أصحاب المصلحة المعنيين. ويمكن أن يختلف أصحاب المصلحة المعنيون بحسب السياق، ولكنهم يشملون عادة واضعي السياسات ومؤسسات البحث والمحاسبة (وبخاصة تلك التي لديها معرفة جيدة بالتحديات الرئيسية التي تواجهها النظم الزراعية والغذائية في البلاد) وممثلي الجهات الفاعلة الرئيسية في النظم الزراعية والغذائية، مثل المنتجين الزراعيين والمجهزين والموزعين.
تقييم أولي للتكاليف المستترة للنظم الزراعية والغذائية في 154 بلدًا
التكاليف المستترة ضخمة بلا شك حتى بعد احتساب عدم اليقين
بُذلت عدة محاولات حتى هذا التاريخ لتقدير التكاليف المستترة المرتبطة بالنظم الزراعية والغذائية العالمية. وتستنتج دراستان بشكل خاص، أجراهما التحالف من أجل الأغذية واستخدام الأراضي (2019) وHendricks وآخرون (2023)، أن حجم التكاليف المستترة كبير نسبة إلى قيمة المنتجات الغذائية التي يتم التداول بها في الأسواق. ولكن الدراستين، على شمولهما، تتسمان بطابع تجميعي ولا تقدمان تقديرات على المستوى الوطني.
ومن هذا المنطلق، أُجري تحليل أوّلي لحساب التكاليف الحقيقية كنقطة انطلاق للمرحلة الأولى من العملية المؤلفة من مرحلتين، وذلك لكي يقوم التقرير بتحديد التكاليف المستترة للنظم الغذائية تحديدًا كميًا في 154 بلدًا. ويستخدم التحليل بيانات على المستوى الوطني (مستمدة من مجموعات بيانات عالمية مختلفة) لنمذجة الآثار ويجمع هذه الأخيرة مع تقديرات نقدية لتثمين (إعطاء قيمة نقدية) التكاليف المستترة. ويسمح ذلك بتجميع النتائج ومقارنتها على أبعاد ونطاقات جغرافية مختلفة وباستخدامها كأساس للحوار مع صانعي القرار. ويتم في هذه العملية احتساب التكاليف والمنافع المستترة قدر الإمكان مع التعبير عن المنافع المستترة (مثل التشجير) كتكاليف مستترة سلبية.
ولكن، نظرًا إلى القيمة غير الملموسة للأغذية – مثلًا من حيث الهوية الثقافية المرتبطة بالنظم الغذائية والزراعية – لا يمكن إعطاء قيمة نقدية لبعض المنافع، ولذلك يتم استبعادها من هذا التحليل بالرغم من أهميتها. إضافة إلى ذلك، تم حذف بعض التكاليف المستترة بسبب الفجوات في البيانات عبر مجموعة البلدان التي شملها التحليل، من مثل التكاليف المرتبطة بتقزّم الأطفال، والتعرّض لمبيدات الآفات، وتدهور الأراضي، ومقاومة مضادات الميكروبات، والأمراض التي تسببها الأغذية غير المأمونة.
وتشير التقديرات الواردة في هذا التقرير إلى أن التكاليف المستترة العالمية للنظم الغذائية التي تم تحديدها كميًا بلغت حوالي 12.7 تريليونات دولار على أساس تكافؤ القوة الشرائية لعام 2020 في عام 2020. ويشمل هذا المبلغ التكاليف المستترة البيئية الناجمة عن انبعاثات غازات الاحتباس الحراري والنيتروجين، واستخدام المياه، والتغيّرات في استخدام الأراضي؛ والتكاليف المستترة الصحية الناجمة عن الخسائر في الإنتاجية بسبب نماذج الأنماط الغذائية غير الصحية؛ والتكاليف المستترة الاجتماعية الناجمة عن الفقر والخسائر في الإنتاجية المرتبطة بالنقص التغذوي. وتؤدي نماذج الأنماط الغذائية غير الصحية والنقص التغذوي على السواء إلى خسائر في الإنتاجية تؤثر على الاقتصادات الوطنية؛ ولكن بما أن الدوافع تختلف بدرجة كبيرة – فالنقص التغذوي مدفوع بالحرمان الشديد بينما نماذج الأنماط الغذائية غير الصحية مدفوعة بالاستهلاك المفرط – فإن التكاليف المستترة الناجمة عن نماذج الأنماط الغذائية غير الصحية ترتبط بالبعد الصحي فيما ترتبط تلك الناجمة عن النقص التغذوي بالبعد الاجتماعي والفقر.
وفي حين أن عدم إعطاء قيمة نقدية لجميع المنافع والتكاليف يشكل عاملًا مقيدًا، إلّا أن ذلك لا يحد بالضرورة من قدرة هذا التحليل على توجيه التحسينات في النظم الزراعية والغذائية. وفي الواقع، إن التكاليف المستترة التي تتم تغطيتها أكثر من كافية لتسليط الضوء على الحاجة إلى العمل. وعندما تقارَن هذه التكاليف بقيمة الاقتصاد العالمي، فإنها تعادل 10 في المائة تقريبًا من الناتج المحلي الإجمالي العالمي على أساس تكافؤ القوة الشرائية لعام 2020. وتساوي قيمة هذه التكاليف في اليوم، 35 مليار دولار على أساس تكافؤ القوة الشرائية لعام 2020.
وتأخذ هذه التقديرات في الاعتبار القدر الكبير من عدم اليقين الكامن في حسابات التكلفة والناجم عن قلّة البيانات المتعلقة بمختلف التكاليف المستترة، ومن خلال استخدام عمليات توزيع احتمالية في بعض البلدان والأقاليم. وتتمثل إحدى الميزات الجذابة لهذا التحليل في أنه يتيح فترات ثقة تعكس عدم اليقين هذا: فتشير التقديرات إلى أن هناك فرصة نسبتها 95 في المائة في أن تبلغ قيمة التكاليف المستترة العالمية 10.8 تريليونات دولار أو أكثر على أساس تكافؤ القوة الشرائية لعام 2020. وكان عدم اليقين أكبر بالنسبة إلى التكاليف المستترة البيئية بسبب قلّة المعلومات بشأن تأثير انبعاثات النيتروجين على خدمات النظم الإيكولوجية. ولكن حتى الحد الأدنى من هذه التكاليف يكشف عن وجود حاجة ملحة لا يمكن إنكارها إلى تحويل النظم الزراعية والغذائية. وبمعنى آخر، لا يجب التذرّع بعدم اليقين لتأجيل العمل.
التكاليف المستترة للنظم الزراعية والغذائية تختلف بشكل كبير من حيث الحجم والتركيبة بين فئات البلدان المصنفة بحسب مستويات الدخل
يخفي تجميع التكاليف المستترة للنظم الزراعية والغذائية المحددة كميًا على المستوى العالمي، تباينات ملحوظة بين مستويات دخل البلدان التي هي من صانعي القرار الرئيسيين لتخفيض هذه التكاليف. وتتولَّد غالبية التكاليف المستترة في البلدان المتوسطة الدخل من الشريحة العليا (5 تريليونات دولار على أساس تكافؤ القوة الشرائية لعام 2020، أو 39 في المائة من إجمالي التكاليف المستترة المحددة كميًا) والبلدان المرتفعة الدخل (4.6 تريليونات دولار على أساس تكافؤ القوة الشرائية لعام 2020، أو 36 في المائة من إجمالي التكاليف). وتستحوذ البلدان المتوسطة الدخل من الشريحة الدنيا على نسبة 22 في المائة من إجمالي التكاليف والبلدان المنخفضة الدخل على نسبة 3 في المائة منها.
ولا تختلف التكاليف المستترة من حيث حجمها فقط، ولكن أيضًا من حيث تركيبتها بحسب مستوى الدخل. ففي جميع مجموعات البلدان، باستثناء البلدان المنخفضة الدخل، تشكل الخسائر في الإنتاجية الناجمة عن نماذج الأنماط الغذائية التي تسبب أمراضًا غير معدية العامل المساهم الأكبر في الأضرار اللاحقة بالنظم الزراعية والغذائية، تليها التكاليف البيئية. وفي البلدان المتوسطة الدخل من الشريحة الدنيا، تتسم التكاليف المستترة الاجتماعية الناجمة عن الفقر والنقص التغذوي بأهمية أكبر نسبيًا حيث أنها تستحوذ على نسبة 12 في المائة في المتوسط من جميع التكاليف المستترة التي تم تحديدها كميًا. ومن غير المفاجئ أن تكون هذه التكاليف المستترة الاجتماعية هي المشكلة الرئيسية في البلدان المنخفضة الدخل (حيث تمثّل أكثر من 50 في المائة من جميع التكاليف المستترة التي تم تحديدها كميًا).
ويساعد عرض التكاليف المستترة كحصة من الناتج المحلي الإجمالي على فهم العبء الذي تتحمله الاقتصادات الوطنية بشكل أفضل ويشكل مؤشرًا على المجالات التي يجب تخصيص الموارد الدولية لها على سبيل الأولوية من أجل معالجة هذه التكاليف. وعلى المستوى العالمي، تساوي التكاليف المستترة التي تم تحديدها كميًا حوالي 10 في المائة في المتوسط من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2020 على أساس تكافؤ القوة الشرائية. ولكنّ هذه النسبة أعلى بكثير في البلدان المنخفضة الدخل حيث تبلغ 27 في المائة في المتوسط. ويشير ذلك إلى أن تحسين النظم الزراعية والغذائية في البلدان المنخفضة الدخل سيكون أساسيًا لمعالجة هذه التكاليف المستترة، ولا سيما تلك التي ترتبط بالفقر والنقص التغذوي والتي تساوي وحدها 14 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وتبلغ نسبة التكاليف المستترة إلى الناتج المحلي الإجمالي 12 و11 في المائة في البلدان المتوسطة الدخل من الشريحتين الدنيا والعليا على التوالي. ولكن تكتسي التكاليف المستترة الاجتماعية أهمية بارزة فقط في البلدان المتوسطة الدخل من الشريحة الدنيا. أما في البلدان المتوسطة الدخل من الشريحة العليا، فتعزى غالبية التكاليف المستترة إلى نماذج الأنماط الغذائية غير الصحية. والحالة مماثلة في البلدان المرتفعة الدخل حيث تبلغ نسبة جميع التكاليف المستترة التي تم تحديدها كميًا 8 في المائة فقط.
تحديد التكاليف المستترة كميًا للاسترشاد بها في نقاط الدخول السياساتية التي يمكن بدورها أن تعالج هذه التكاليف
يهدف تحديد التكاليف المستترة التي جرى وصفها إلى المساعدة على تحديد نقاط الدخول لترتيب التدخلات والاستثمارات بحسب الأولوية. وفي هذا الصدد، يجب أن تتمثل الخطوة الأولى في تحديد المواضع من داخل نظام زراعي وغذائي معيّن التي تكون فيها التكاليف المستترة أعلى وإلى أي أنشطة تعزى. وبدءًا بالبعد البيئي، تشير التقديرات إلى أن هذه التكاليف تنشأ بشكل رئيسي في الإنتاج الأولي إذ تشكل تكاليف ما قبل الإنتاج وما بعده أقل من 2 في المائة من إجمالي التكاليف المستترة المحددة كميًا. وبمعنى آخر، يجب أن يُنظر إلى القطاع الأولي على أنه نقطة الدخول الرئيسية لإحداث تغيير في المسارات البيئية. وعلى المستوى العالمي، تساوي التكاليف المستترة الناجمة عن الزراعة – من خلال المسارات البيئية – حوالي ثلث القيمة المضافة الزراعية.
وبالنسبة إلى بعض البلدان، من المرجح أن ينصبّ التركيز على الجهات الفاعلة الضعيفة وبخاصة على مساهمة النظم الزراعية والغذائية في الفقر المعتدل – أي الفشل العام في توزيع القدر الكافي من العائدات والسعرات الحرارية اللازمة لضمان حياة منتجة. ويخلص التقرير إلى أنّ تجنب تكاليف الفشل في التوزيع في النظم الزراعية والغذائية يتطلّب أن تزيد مداخيل الأشخاص الذين يعانون من الفقر المعتدل والذين يعملون في هذه النظم بنسبة 57 في المائة في المتوسط في البلدان المنخفضة الدخل وبنسبة 27 في المائة في المتوسط في البلدان المتوسطة الدخل من الشريحة الدنيا.
ويعدّ متوسط الخسائر في الإنتاجية للفرد الواحد نتيجة المتناول الغذائي مجالًا آخر برزت أهميته بوضوح. وعلى المستوى العالمي، تساوي هذه القيمة 7 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي على أساس تكافؤ القوة الشرائية لعام 2020؛ وتبلغ حدها الأدنى (4 في المائة) في البلدان المنخفضة الدخل و7 في المائة أو أكثر في فئات البلدان الأخرى المصنفة بحسب الدخل.
وبشكل عام، تشير النتائج إلى أن التكاليف المستترة المحددة كميًا والمرتبطة بالنظم الزراعية والغذائية كبيرة في جميع البلدان، حتى بعد أخذ عدم اليقين في الحسبان. وتكشف النتائج أيضًا عن حجم التحوّل اللازم ولكنها لا تقيس كلفة التخفيف من آثار التحديات المختلفة أو الوقاية منها ولا تشير إلى ما إذا كان ذلك ممكنًا أم لا. وبدلًا من ذلك، تبيّن النتائج المساهمات النسبية لمختلف الأنشطة أو الملوّثات وتبرز المجالات التي تحتاج إلى مزيد من الاستكشاف في التقييمات المحددة الأهداف من أجل سد الفجوات في البيانات وفهم تكاليف التخفيض. ولن يكون من الممكن توجيه تدخلات كيانات القطاعين العام والخاص على السواء لتحويل النظم الزراعية والغذائية نحو الأفضل إلّا من خلال عمليات التقييم هذه المحددة الأهداف.
الانتقال إلى عمليات تقييم محددة الأهداف لحساب التكاليف الحقيقية: المرحلة الثانية من عملية مؤلفة من مرحلتين
من التقدير الأولي للتكاليف المستترة إلى تحديد الإجراءات
إن نتائج عملية تقييم التقديرات الوطنية هي نتائج أولية، ويجب استكمالها بالتالي ببيانات مصنفة وأكثر دقة مستمدة من عمليات تقييم محددة الأهداف. ويمكن تحقيق ذلك من خلال المرحلة الثانية من عملية التقييم، مع التركيز على إجراء عمليات تقييم محددة الأهداف لدعم صنع القرارات الرامية إلى تحسين استدامة النظم الزراعية والغذائية. ويتمثل الهدف من ذلك في تحديد الإجراءات التحويلية المفضلة الممكنة مع مقارنة التكاليف والمنافع التي ينطوي عليها كل واحد منها – مثلًا من خلال تحليل السيناريوهات – من أجل تخصيص الموارد للإجراءات الأكثر قابلية للتطبيق والأكثر فعالية من حيث الكلفة، ومقارنة الخيارات المستقبلية، وإدارة المفاضلات وأوجه التآزر. ومن ثم يؤدي ذلك إلى اعتماد الأدوات اللازمة لإصلاح السياسات والاستثمارات والتدخلات الأخرى الرامية إلى معالجة الشواغل التي تم تحديدها.
تحديد نطاق عمليات التقييم المحددة الأهداف
عند التحضير لتقييم محدد الأهداف، من المهم رسم حدود التحليل لإبقاء نطاق الدراسة ممكنًا والسماح لها في الوقت نفسه بتحقيق أهدافها. ويبدأ ذلك باختيار الوحدة الوظيفية للتحليل، أي ما الذي يتم تقييمه وقياسه، والتي يمكن تقسيمها بين النظم الزراعية والغذائية، ونماذج الأنماط الغذائية، والاستثمار، والتنظيم، والمنتج. وتتوقف الوحدة الوظيفية المختارة على محور تركيز السياسات أو موضوع البحث. وبصورة عامة، تكون حدود التحليل التي تشمل المستوى الأعلى من النظم الزراعية والغذائية، الأكثر ملاءمة لوضع السياسات ذلك أنها أكثر شمولًا وتنظر في إمكانية توجيه الأثر النظمي.
ويتطلب عادة تفعيل أدوات التغيير إجراء تحليلات على مستوى مفصّل أكثر من أجل تحقيق الفعالية. وقد يتطلب ذلك أن يشكل المنتج أو الاستثمار الوحدة الوظيفية التي تسترشد بها القرارات الملموسة. أما إذا كان موضع اهتمام السياسات هو تشجيع الأنماط الغذائية الصحية، فإنه من الأنسب اختيار نماذج الأنماط الغذائية لتكون الوحدة الوظيفية. وقد يكون من الملائم أيضًا اختيار التنظيم كوحدة وظيفية في بعض الحالات. وفي حين يتم اختيار التنظيم كوحدة وظيفية مع القطاع الخاص في غالب الأحيان، بإمكانها أن تولّد معلومات قيّمة إذا كان هدف السياسات هو تحديد المجالات التي تحتاج فيها الأعمال التجارية إلى الدعم إما لحساب التكاليف الحقيقية بنفسها أو للحد من الآثار السلبية التي تسببها.
تحليلات السياسات والسيناريوهات: أدوارها الرئيسية والتكميلية في عمليات تقييم حساب التكاليف الحقيقية المحددة الأهداف
يشكل تحليل السيناريوهات سمة أساسية لأي عملية حساب للتكاليف الحقيقية بغض النظر عن حدود التحليل. وسواء أكان مجال تطبيق حساب التكاليف الحقيقية هو النظم الزراعية والغذائية الوطنية، أو الأنماط الغذائية المحلية، أو الاستثمارات العامة، أو سلاسل القيمة، يسمح تحليل السيناريوهات بمقارنة المسارات المستقبلية المحتملة ويجري تقييمًا لتأثير مختلف السياسات والخيارات الإدارية وفعاليتها. ويعد القيام بذلك أمرًا ضروريًا لتحديد القضايا الناشئة عن التقاعس، إضافة إلى أوجه التآزر والمفاضلات التي ينطوي عليها العمل. ومن ثم يمكن دراسة هذه المفاضلات بعناية لوضع استراتيجيات أقوى وتقييم مدى فعالية الإجراءات المحتملة المختلفة.
ويمكن أن تساعد هذه السيناريوهات على إعادة وضع إطار محدد للمشكلة للتوصل إلى جدول أعمال سياساتي أكثر فعالية. وتضم عادة هذه السيناريوهات مكونات نوعية وكمية وتقترن في الكثير من الأحيان بنهج تشاركية يشارك فيها أصحاب المصلحة المحليون والإقليميون. وعلى سبيل المثال، يمكن استخدام توقعات النمو السكاني لتقدير التغيّرات المتوقعة في الغطاء الأرضي عند دراسة الاتجاهات السائدة في مجال التوسّع الزراعي أو التوسّع الحضري.
ويمكن تفسير نتائج تحليل السيناريوهات باستخدام تحليل الكلفة مقابل المنافع الذي يقارن المنافع والتكاليف التي تنطوي عليها مختلف التدخلات ويحدد الجدوى الاقتصادية والمالية لهذه الأخيرة. وفي المقابل، يقوم نهج الفعالية من حيث الكلفة بمقارنة التكاليف المترتبة على تحقيق هدف معيّن عند استخدام خيارات التدخل المختلفة، مثل كلفة كل طن من الانبعاثات التي يتم تجنّبها من خلال الكفاءة في استخدام الطاقة، والطاقة المتجددة، والحد من إزالة الغابات. ويتسم هذا النهج بأهمية خاصة عند النظر في خيارات تخفيض التكاليف المستترة للنظم الزراعية والغذائية التي لم يتم تحديدها من الناحية النقدية.
يمكن لحساب التكاليف الحقيقية أن تساعد على دفع الأعمال التجارية والاستثمارات الزراعية والغذائية باتجاه الاستدامة
من غير المرجح إمكانية معالجة جميع القضايا من خلال السياسات وحدها. فالنظم الزراعية والغذائية هي في جوهرها أنشطة يضطلع بها القطاع الخاص الذي سيتوجب عليه تحمّل جزءًا من المسؤولية عن خفض التكاليف المستترة. ويوفر حساب التكاليف الحقيقية إطارًا للأعمال التجارية لتقييم الآثار التي تحدثها وأوجه الاعتماد ولإدارتها بطريقة أكثر شمولًا ودقة. وبإدراج حساب التكاليف الحقيقية في عمليات صنع القرارات واستراتيجيات الإدارة اليومية، يمكن للأعمال التجارية الزراعية والغذائية أن ترصد الفرص وأن تطلق عنانها في مراحل مختلفة من سلسلة الإمدادات، وأن تحقق الاستدامة في الإنتاج، وأن تستقطب الاستثمارات الخاصة، وتستفيد من الحوافز الحكومية. وعندما يُعتمد حساب التكاليف الحقيقية في السياسات ويتحظى بدعم من خلال القوانين والأنظمة، فإنه يعيد تحديد مؤشرات الأداء الرئيسية ويُغيّر أسس نجاح الأعمال من خلال تضمين رأس المال البشري والاجتماعي والطبيعي فيه. وباختصار، يعيد حساب التكاليف الحقيقية تحديد مفهوم "الأعمال التجارية الناجحة".
ويمكن أن تستخدم المؤسسات المالية من مثل البنوك وشركات التأمين حساب التكاليف الحقيقية أيضًا لتحديد شروط الائتمان والتأمين بالاستناد إلى عمليات تقييم أفضل للمخاطر، الأمر الذي من شأنه أن يحسّن هذه الشروط لإقامة أعمال تجارية مستدامة. ويمكن للتقييم الشامل للتكاليف والمنافع باستخدام حساب التكاليف الحقيقية أن يساعد الأعمال التجارية أيضًا على تعبئة الموارد المالية اللازمة لتحقيق الاستدامة، الأمر الذي يفتح باب الفرص أمام الاستثمارات الجديدة وتوسيع نطاقها. وكذلك، يمكن لحساب التكاليف الحقيقية أن يساعد الأعمال التجارية على الاستجابة للطلب المتنامي على الشفافية في سلسلة الإمدادات من جانب المستهلكين الذين يتزايد وعيهم بالجوانب المختلفة للإنتاج، بما في ذلك ظروف العمل والآثار البيئية. وفي هذا الصدد، يمكن أن يساعد حساب التكاليف الحقيقية الأعمال التجارية على التأهل للحصول على الشهادات الطوعية (مثل التجارة العادلة) والحوافز الحكومية.
وفي ظل الحاجة الملحة المتنامية إلى تحديد التكاليف المستترة للأعمال التجارية تحديدًا كمّيًا، وبخاصة التكاليف المستترة للمنتجات الزراعية والغذائية، اتخذت مبادرات عديدة الخطوات الأولى. وتغطي المبادرات القائمة نطاقًا واسعًا من تطبيقات حساب التكاليف الحقيقية في الأعمال التجارية. ولكن لا تزال هناك مجالات تحتاج إلى مزيد من التطوير لتحقيق كامل إمكانات حساب التكاليف الحقيقية في القطاع الخاص. وتشمل هذه المجالات الأطر والمعايير، والأساليب، والحوكمة والاستراتيجيات المؤسسية، والخطوط التوجيهية لرفع التقارير.
تعميم حساب التكاليف الحقيقية لتحويل النظم الزراعية والغذائية: الفرص والتحديات
يمكن استخدام أدوات مساعدة، عندما تكون قائمة على حساب التكاليف الحقيقية، لتحسين استدامة النظم الزراعية والغذائية
يمكن لمختلف الأدوات المساعدة أن تؤثر على طرق العمل الداخلية للنظم الزراعية والغذائية وأن تُستخدم بشكل استراتيجي لدفع النظم باتجاه الاستدامة. ويمكن أن تؤثر هذه الأدوات المساعدة على جانب العرض (الإنتاج والجهات الوسيطة)، وجانب الطلب (الاستهلاك)، والسلع العامة التي تدعم النظم الزراعية والغذائية. وليست أي واحدة من هذه الأدوات المساعدة جديدة، وإنما يكمن الابتكار في الطريقة التي تُستخدم فيها. وعندما يتم الاسترشاد بعمليات تقييم حساب التكاليف الحقيقية المحددة الأهداف، يمكن إعادة توجيه الأدوات المساعدة القائمة في النظم الزراعية والغذائية، مثل الإعانات الزراعية والغذائية، أو إصلاحها لدعم الاستراتيجيات الواعدة والناشئة وتوسيع نطاقها لتهيئة أعمال تجارية واستثمارات مستدامة. ويتوقف اختيار الأداة المساعدة على نتائج تحليلات السيناريوهات والسياسات، والاحتياجات الخاصة بكل سياق، والأولويات، والموارد المتاحة. وبالرغم من أن الحكومات تملك مجموعة الأدوات المساعدة الأوسع والأكثر تأثيرًا، تؤدي الجهات الفاعلة الأخرى – مؤسسات البحوث، ومنظمات المجتمع المدني، والأعمال التجارية، والمؤسسات المالية – أيضًا أدوارًا مهمة في تشكيل أداء النظم الزراعية والغذائية. وبالمثل، يجب أن تؤخذ القطاعات الأخرى من خارج النظم الزراعية والغذائية (مثل قطاعي الرعاية الصحية والطاقة) في الاعتبار في المرحلة المقبلة ومن حيث أوجه التآزر والتبادل لتهيئة الحوافز المتسقة مع هذه الغاية.
هل ستؤدي معالجة التكاليف المستترة إلى رفعأسعار الأغذية؟
يتمثل أحد الأسئلة الشائعة في ما إذا كانت معالجة التكاليف المستترة للنظم الزراعية والغذائية ستؤدي إلى رفع أسعار الأغذية. ويضع هذا التقرير الأسس اللازمة للإجابة على هذا السؤال. والفرضية الأساسية هي أن ذلك سيتوقف على الكلفة المستترة التي تجري معالجتها وعلى الأدوات المستخدمة. ومن المفيد النظر في الفئات المختلفة من التكاليف المستترة التي تجري دراستها، أي: التكاليف الاجتماعية المستترة المرتبطة بالفشل في التوزيع والتي تؤدي إلى الفقر والنقص التغذوي؛ والتكاليف البيئية المستترة الناشئة عن الأضرار المرتبطة بالعوامل الخارجية؛ والتكاليف الصحية المستترة المرتبطة بنماذج الأنماط الغذائية التي تسبب السمنة والأمراض غير المعدية. ولطريقة التعاطي مع كل من هذه الفئات انعكاسات مختلفة على المداخيل وأسعار الأغذية.
ومن شأن معالجة مسألة التكاليف الاجتماعية المستترة جراء الإخفاق على مستوى التوزيع، على سبيل المثال، أن يحسّن الإنتاجية في قطاع الأغذية والزراعة، الأمر الذي يفرض ضغوطًا تنازلية على أسعار الأغذية ويعود بالنفع على المستهلكين بشكل عام. وعلى العكس من ذلك، إذا أُجبر المنتجون على الدفع مقابل تدابير (مبدأ الملوّث يدفع) – مثلًا من خلال الضرائب أو الأنظمة التي تنص على ممارسات أقل ضررًا على البيئة – لا يتم استكمالها بالمشورة حول كيفية الحد من التكاليف حيث تكون هذه الأخيرة مستترة، فإذًا ستنتقل هذه التكاليف عبر سلسلة القيمة أو ستنقل إلى المستهلكين على شكل ارتفاع أسعار الأغذية.
ويتمثل البديل عن ذلك في تطبيق مبدأ "المستفيد يدفع" والذي يضع عبء تغطية التكاليف الحقيقية لأنشطة النظم الزراعية والغذائية على المستفيدين منها – وهم عادة عامة الناس، ولكن أيضًا مجموعات محددة تتأثر بشكل خاص بالأنشطة الخارجية التي يشاركون فيها. وفي مثل هذه الحالات، لا يجب أن تؤدي السياسات إلى زيادة في أسعار الأغذية. ومن الأمثلة على ذلك الدفع مقابل الخدمات البيئية، حيث يدفع المستفيدون للأطراف التي قد تضر أنشطتها بالبيئة لكي تغيّر سلوكها.
وتتمثل مجموعة من السياسات التي تشمل مزيجًا من مبدأ الملوّث يدفع ومبدأ المستفيد يدفع في إعادة توجيه الإعانات الزراعية. فيمكن لتغيير الإعانات الزراعية ذات الأداء الضعيف لحماية الأراضي الزراعية المتدهورة وإصلاحها، أن يدعم المجتمعات المحلية بشكل أفضل وأن يساعد البلدان على تحقيق أهدافها المتعلّقة بالمناخ والتنوع البيولوجي والتنمية الريفية. ولكنّ الخطط القائمة على الإعانات ترتّب عبئًا على الموارد المالية النادرة بالفعل وقد تؤدي الأهداف المتنافسة إلى مفاضلات. ويتوقف الخيار في نهاية المطاف بين صكوك السياسات على التداعيات على مستوى الإنصاف التي تعتمد بدورها على هوية الجهات المستفيدة. وينبغي إسناد الأولوية إلى الحالات التي توجد فيها أوجه تآزر.
وبإمكان عمليات التقييم المحددة الأهداف لحساب الكلفة الحقيقية أن تفيد في تصميم الخطط الضريبية وإعادة توزيع الموارد بغية تغيير الأسعار النسبية للأغذية لصالح خيارات مغذية ومستدامة بقدر أكبر. وعند توجيه عائدات الضرائب لتشجيع الأنماط الغذائية الصحية والمستدامة، يمكن لميزانيات الأغذية لدى الأسر المعيشية أن تبقى على حالها. وفي الأجل الطويل، قد يُترجم التحسن في الصحة العامة الذي يفضي إلى زيادة الإنتاجية، على شكل زيادة في مداخيل الأسر المعيشية. وفي هذه الحالة، حتى وإن كانت كلفة الأنماط الغذائية الصحية أعلى، من شأن الزيادة في المداخيل أن يساعد في التعويض عن هذه النفقات الإضافية. لكن من الضروري إجراء مزيد من الأبحاث لفهم التكاليف المعنية.
تهيئة بيئة تمكينية لتوسيع نطاق اعتماد حساب التكاليف الحقيقية من أجل تحويل النظم الزراعية والغذائية
لا يمكن توسيع نطاق اعتماد حساب التكاليف الحقيقية من جانب مجموعة واحدة من الجهات الفاعلة؛ فذلك يتطلب مساهمات تكاملية من مختلف أصحاب المصلحة الذين يؤثرون على طريقة عمل الأعمال التجارية الزراعية والغذائية. وتؤدي الحكومات بما لديها من سياسات وأموال واستثمارات وقوانين وأنظمة، دورًا أساسيًا في تهيئة بيئة تمكينية لتوسيع نطاق اعتماد حساب التكاليف الحقيقية من أجل تحويل النظم الزراعية والغذائية. وتؤدي منظمات البحوث وواضعو المعايير دورًا رئيسيًا أيضًا في تطوير المنهجيات ووضع المعايير لجمع البيانات واستخدامها في عمليات تقييم حساب التكاليف الحقيقية. وهذا الأمر ضروري لضمان شفافية التكاليف والمنافع الحقيقية للنظم الزراعية والغذائية. وسيتم تسهيل تطبيق دراسات حساب التكاليف الحقيقية إلى حد كبير من جانب شركات المحاسبة وشركات الاستشارات التجارية التي تقدم المشورة والدعم لمنتجي المواد الزراعية والغذائية والأعمال التجارية وأصحاب المصلحة المعنيين الآخرين في معرض انتقالهم إلى الاستدامة. ويمكن للمؤسسات المالية ووكالات التصنيف الائتماني أن تؤدي دورًا مهمًا إذا فضّلت الإنتاج والأعمال التجارية والاستثمارات المستدامة. وفي نهاية المطاف، سيكون المنتجون والأعمال التجارية والمستهلكون – والتحالفات التي يبنونها – هم من يحدثون التغيير ويطبقون المعايير الجديدة، وبخاصة الطوعية منها.
وليتحقق ذلك على نطاق واسع، وبخاصة في البلدان المتوسطة والمنخفضة الدخل، يجب التغلّب على عائقين رئيسيين هما: ندرة البيانات والنقص في القدرات.
لأول مرّة على الإطلاق، ستكرّس منظمة الأغذية والزراعة إصدارين متتاليين من تقرير حالة الأغذية والزراعة للموضوع نفسه
تستثمر منظمة الأغذية والزراعة، من خلال تكريسها إصدارين لهذا الموضوع، في الكشف عن المعلومات ذات الصلة اللازمة لتوجيه عملية صنع القرارات في النظم الزراعية والغذائية نحو تحقيق الاستدامة. وقد تم عرض النتائج الجديدة لعمليات التقييم الوطنية الأولية في تقرير هذه السنة، الأمر الذي أتاح فرصة غير مسبوقة لدعم صانعي القرار من حول العالم في تحديد التحديات (المستترة) الواسعة التي تعترض نظمهم ولإطلاق عملية تهدف إلى وضع رؤية مشتركة لتحويل النظم الزراعية والغذائية. وتشدد هذه النتائج الأولية التي يجب تحسينها وتحديثها، على أهمية إعادة توجيه الدعم العام الحالي والقوانين والأنظمة والمعايير التي تؤثر على سلوك الجهات الفاعلة الأخرى من قبيل المستهلكين. ويؤدي رأس المال الخاص – الذي يبلغ حوالي 14 مرّة الدعم العام العالمي – مثله مثل المؤسسات المالية، دورًا مهمًا أيضًا في تشكيل الاستدامة القطاعية من خلال التأثير على الجهات الفاعلة وإرشادها ودعمها في تحوّلها نحو الاستدامة.
وسيشدد تقرير العام المقبل على الطريقة التي يمكن فيها تصميم عمليات التقييم المحددة الأهداف بالاستناد إلى أولويات واضعي السياسات في سياقات محددة. وسيتمثل الهدف من ذلك في إبراز المرونة التي يتمتع بها حساب التكاليف الحقيقية عند تطبيقها على نطاقات مختلفة، من النظم الزراعية والغذائية الكاملة وصولًا إلى منتج واحد. وبغض النظر عن نطاق التحليل، يمكن أن يُستخدم حساب التكاليف الحقيقية لمقارنة مختلف الخيارات في مجال السياسات والإدارة. وسوف تدخل تحليلات السيناريوهات والسياسات، بوصفها متابعة للعمل الذي بدأ في هذا التقرير، في حساب التكاليف الحقيقية حيث ستنظر في مجموعة الاحتمالات الممكنة للمستقبل، بما في ذلك نتائج خيارات السياسات والإدارية المختلفة وفعاليتها من أجل توجيه عملية تحويل النظم الزراعية والغذائية نحو الأفضل.