- ➔ يمثّل عدم استدامة النظم الزراعية والغذائية وضعف قدرتها على الصمود واحدًا من الشواغل الرئيسية، وقد أدى فشل السوق والمؤسسات والسياسات إلى مفاقمة الوضع إذ ألحق خسائر بالمجتمع وأعاق التحوّل المطلوب بشدة نحو الاستدامة.
- ➔ من أجل تحسين النتائج، لا بدّ لصانعي القرار من تكوين فهم شامل لتكاليف النظم الزراعية والغذائية ومنافعها بالنسبة إلى جميع أصحاب المصلحة، بمن فيهم الفئات الممثلة تمثيلًا ناقصًا وأجيال المستقبل، التي لا يجري قياسها بصورة منهجية ومتواصلة.
- ➔ من شأن الفهم الشامل أن يمكّن من اتساق الأدوات المساعدة المتاحة بصورة أفضل - من الدعم المالي والأنظمة إلى المعايير الطوعية - واستخدامها بشكل فعال أكثر لتحقيق تغذية أفضل وتكوين استثمارات وإجراءات سياسية مراعية للمساواة بين الجنسين والبيئة.
- ➔ يُعتبر حساب التكاليف الحقيقية نهجًا متينًا للكشف عن التكاليف المستترة الناجمة عن النظم الزراعية والغذائية الحالية وإبراز عدم استدامتها وتوجيه استخدام الأدوات المساعدة المتاحة من أجل تحسين نتائجها.
- ➔ غير أنّ محاسبة التكاليف الحقيقية تتطلب قدرًا كبيرًا من البيانات، ما يمثل تحديًا صعبًا، لا سيما في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل. وعليه، ينبغي استخدام البيانات المتاحة مسبقًا إلى أقصى حد ممكن بغية تجنب عدم التحرّك.
- ➔ يقترح هذا التقرير إجراء تقييم على مرحلتين بالاستناد إلى محاسبة التكاليف الحقيقية، بدءًا من إجراء عمليات تقييم أولية وأوسع نطاقًا على المستوى الوطني وصولًا إلى عمليات تقييم معمَّقة ومحددة الأهداف بغية إسناد الأولوية للحلول وتوجيه العمل التحويلي.
هناك وجهان لقصة النظم الزراعية والغذائية، وكلاهما صحيح.
الوجه الأول هو أنّ النظم الزراعية والغذائية تدرّ منافع جمة على المجتمع، أقلّها أنها تنتج الأغذية التي تغذينا. كما أنّ النظم الزراعية والغذائية أكبر جهة توظيف في العالم، فهي توفر فرص العمل وسبل العيش لما يزيد عن مليار شخص.1 ويعدّ الكثير من المزارعين مشرفين بيئيين، حيث يقدّمون خدمات بيئية للمجتمع. ومن خلال الممارسات المستدامة، مثل الحراجة الزراعية، تحمل النظم الزراعية والغذائية منافع عامة، بما فيها صون التنوع البيولوجي وتخزين الكربون واحتجازه وتنظيم مستجمعات المياه. وبالتالي، فإنّ القيمة التي تضفيها النظم الزراعية والغذائية على المجتمع تتجاوز بأشواط القيمة المقاسة في الناتج المحلي الإجمالي. أما الوجه الثاني، فهو أنّ النظم الزراعية والغذائية هشة وغير مستدامة، بسبب فشل السوق والمؤسسات والسياسات، ما يساهم في تغيّر المناخ وتدهور الموارد الطبيعية إلى جانب الفشل في توفير أنماط غذائية صحية للجميع. وبما أنّ وجودنا مرتبط بكوكب واحد فقط ونظم زراعية وغذائية هشة، فيجب علينا الحذر في كل خطوة نخطوها.
وقد تطورت النظم الزراعية والغذائية منذ بداية الزراعة، قبل آلاف السنين. وبفضل التغيّر التكنولوجي والابتكارات في السنوات السبعين الماضية، زادت الإنتاجية الزراعية بشكل هائل. وفي الوقت نفسه، نمت تجارة الأغذية بصورة فائقة، خاصة في العقود الثلاثة الماضية. وقد ساعدت هذه العوامل في تغذية السكان الذين تضاعف عددهم ثلاث مرات وأصبحوا أكثر تمركزًا في المدن. ونتيجة لذلك، انخفضت نسبة السكان العاملين في الزراعة، في حين نشأت الوظائف في المراحل الأولى والنهائية من سلاسل القيمة وفي قطاعات أخرى.
وتتمتع النظم الزراعية والغذائية اليوم بإمكانية الوصول إلى جيل جديد من التكنولوجيات المؤتمتة القادرة على تعزيز الإنتاجية والقدرة على الصمود والتصدي لتحديات الاستدامة البيئية.2 وباتت البيانات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية التفصيلية متاحة بشكل متزايد، ما يتيح للمنتجين والشركات العاملة في مجال الأغذية الزراعية، وكذلك صانعي السياسات، الفرصة لاتخاذ قرارات قائمة على البيانات في ما يتعلق بالإنتاج وسلاسل الإمداد والتجارة والحماية الاجتماعية وما إلى ذلك. ومع تزايد التحديات التي تواجه النظم الزراعية والغذائية، يتيح تزايد وسائل جمع البيانات والمعلومات فرصة غير مسبوقة لسد الفجوات المعرفية بشكل استراتيجي بحيث يكون صناع القرار أكثر استعدادًا لتحويل النظم الزراعية والغذائية إلى الاستدامة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.
لكن كيف يمكننا اتخاذ قرارات من شأنها مضاعفة منافع النظم الزراعية والغذائية إلى جانب معالجة التحديات الرئيسية التي تعيق تحويلها؟ وكيف تعرف الحكومات البرامج التي ينبغي أن ترعاها وأصحاب المصلحة الذين يجب دعمهم؟ وكيف يضمن المنتجون الزراعيون أن الموارد الطبيعية التي يعتمدون عليها سوف تتجدد في المواسم اللاحقة؟ وكيف يمكن لتجار التجزئة الترويج للأغذية المغذية؟ وكيف يمكن حثّ المستهلكين على استخدام قوتهم الشرائية لدعم الأنماط الغذائية الصحية والمستدامة؟ وهل ستؤثر هذه القرارات على تكاليف الإنتاج، وفي نهاية المطاف، على أسعار الأغذية؟
نحن لا نملك كل الإجابات في حياتنا اليومية، لكنّ الناس والأعمال التجارية والحكومات يتخذون قراراتهم، بالرغم من ذلك. وتلك القرارات لها عواقب، سواء كانت جيدة أم سيئة، وهي ليست جلية دائمًا. وتهدف هذه النسخة من تقرير حالة الأغذية والزراعة إلى إطلاق عملية تصبو إلى تحليل التعقيدات وأوجه التكافل القائمة بين النظم الزراعية والغذائية وتأثيرها على البيئة والمجتمع والصحة والاقتصاد من خلال حساب التكاليف الحقيقية. وسيؤدي إجراء ذلك إلى الكشف عن آثارها المستترة وإرشاد الإجراءات التي تساهم في تحويلها إلى الكفاءة والشمولية والاستدامة والقدرة على الصمود.
تفسير آثار النظم الزراعية والغذائية وأوجه اعتمادها
تتميز النظم الزراعية والغذائية بالديناميكية، بدءًا من تكوينها الطبقي وصولًا إلى تفاعلاتها مع الموارد التي تدعم الطبيعة والمجتمع. كما أنها تتأثر أيضًا بقرارات السياسات والأعمال التجارية والمستهلكين. ويوضح الشكل 1 إطارًا مفاهيميًا يصوّر الأعمال الداخلية للنظم الزراعية والغذائية وتأثيراتها على الموارد (وبالعكس) والأدوات المساعدة المتاحة لتحويلها. ويساعد الإطار على تحليل التأثيرات وأوجه التكافل العديدة للنظم الزراعية والغذائية، فضلًا عن إتاحة الفرص أمام صانعي القرار لتوجيهها نحو المسار الأفضل.
الشكل 1 كيف يمكن الاسترشاد بعمليات تقييم تدفقات رأس المال لتحديد الأدوات المساعدة اللازمة لتحويل النظم الزراعية والغذائية
ويمثّل المستطيل الأصفر في الشكل 1 النظم الزراعية والغذائية، موضحًا كيف أنها تشمل الإنتاج الزراعي وسلاسل الإمدادات الغذائية وسلوك المستهلك والأنماط الغذائية والترابط مع النظم الأخرى، مثل النظم البيئية والصحية. ويشمل الإنتاج الزراعي إنتاج المحاصيل والثروة الحيوانية وتربية الأحياء المائية ومصايد الأسماك والغابات. وتتسم سلوكيات المستهلكين والأنماط الغذائية بأنها بيئات غذائية تتداخل مع سلاسل الإمدادات الغذائية، وتشير إلى الظروف المادية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمتعلقة بالسياسات التي تحدد الوصول والقدرة على تحمّل الكلفة والسلامة والتفضيلات الغذائية.3–5 وتوضح الأسهم المتدفقة داخل النظم الزراعية والغذائية وخارجها كيف تعتمد أنشطتها على رؤوس الأموال الطبيعية والبشرية والاجتماعية والإنتاجية – وتؤثر عليها. وهي تشكل أساس رفاهية الإنسان والنجاح الاقتصادي والاستدامة البيئية، وهي تعرّف على النحو التالي:6
- رأس المال الطبيعي: رصيد الموارد الطبيعية المتجددة وغير المتجددة التي تجتمع لتوليد دفق من المنافع للناس؛
- رأس المال البشري: المعارف والمهارات والكفاءات والصفات المتجسّدة في الأفراد والتي تساهم في تحسين الأداء والرفاه؛
- رأس المال الاجتماعي: الشبكات، إلى جانب المعايير المشتركة والقيم والمفاهيم التي تسهّل التعاون ضمن الفئات وفي ما بينها؛
- رأس المال الإنتاجي: السلع والأصول المالية التي يصنعها الإنسان والمستخدمة في إنتاج سلع وخدمات يستهلكها المجتمع.
وتتسبب أنشطة النظم الزراعية والغذائية في إحداث تغييرات (تأثيرات) في رؤوس الأموال من خلال التدفقات الداخلة والخارجة. وتمثّل الأسهم الكبيرة تلك التأثيرات وأوجه التبعية، مع ألوان تتوافق مع رأس المال المعني. ويمكن أن تكون تدفقات رأس المال في النظم الزراعية والغذائية أقرب إلى العلاقات التكافلية في العديد من السياقات. وعلى سبيل المثال، يساهم رأس المال الطبيعي في نمو الكتلة الأحيائية والمياه العذبة في النظم الزراعية والغذائية (السهم الأخضر الذي يشير إلى "النظم الزراعية والغذائية"). وفي المقابل، يمكن أن تؤثر النظم الزراعية والغذائية سلبًا على رأس المال الطبيعي من خلال انبعاثات غازات الاحتباس الحراري والتلوث (السهم الأصفر الذي يشير إلى "رأس المال الطبيعي"). ومن جهة أخرى، إذا جرى استخدام الزراعة المتجددة، يمكن أن تساهم ممارسات الإنتاج في إصلاح النظام البيئي. ويوفر رأس المال البشري اليد العاملة والمهارات، في حين توفر النظم الزراعية والغذائية أجورًا مجزية وظروف عمل لائقة. ويمكن لرأس المال الاجتماعي أن يساهم في النظم الزراعية والغذائية من خلال المعرفة الثقافية وأن يحدد أعراف الوصول إلى الموارد مثل الأراضي، وتقدّم النظم الزراعية والغذائية في المقابل الأمن الغذائي والتغذية (أو انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية)، اعتمادًا على كفاءتها وشمولها وقدرتها على الصمود. ويساهم رأس المال الإنتاجي بأمور عديدة منها البحث والتطوير، في حين تولّد النظم الزراعية والغذائية الدخل والأرباح والريع والضرائب. ومع أن هذه التدفقات تبدو بديهية، لم يجر بذل الكثير من الجهود لقياسها وإدارة تأثيراتها، باستثناء رأس المال الإنتاجي.
وفي الجزء العلوي من الشكل 1، يعرض المستطيل الأحمر الأدوات أو الأدوات المساعدة المتاحة للتأثير على أنشطة النظم الزراعية والغذائية وتأثيراتها والجهات الفاعلة فيها. وهذه الأدوات المساعدة ليست جديدة وهي تُستخدم حاليًا من قبل صانعي القرار، بمن فيهم الحكومات وأصحاب المصلحة الآخرين، الذين يحددون أو يؤثرون على ماهية الأدوات المساعدة التي ينبغي استخدامها ومتى وأين وكيف تُستخدم. وتصف الفقرات التالية الفئات الرئيسية للعوامل المساعدة، التي تتسم بتعددها وتنوعها. ومع ذلك، لا يهدف هذا القسم إلى أن يكون شاملًا وقد تكون هناك أدوات مساعدة محتملة أخرى.
ويتسم العديد من الأدوات المساعدة، لكن ليس جميعها، بأنها مشرّعة من قبل الحكومات والسلطات المحلية وتخضع لإدارتها من أجل التأثير على الجهات الفاعلة في النظم الزراعية والغذائية وتوجيهها نحو أهداف تُعتبر مهمة بالنسبة إلى صانعي السياسات. وهي تشمل التدخلات التجارية والسوقية والإعانات والقوانين واللوائح ودعم الخدمات العامة والسياسات السلوكية.7
وتنشئ الحكومات حوافز للأسعار أو مثبطات لها من خلال التدخلات التجارية والسوقية. وتتكوّن هذه التدابير عمومًا من تدابير حدودية (مثل التعريفات الجمركية أو حصص الواردات وحظر التصدير أو الإعانات) و/أو الأنظمة الخاصة بأسعار السوق (مثل سياسات تثبيت الأسعار المحلية). وتسبب هذه التدخلات فجوة بين الأسعار المحلية والدولية للمنتجات المستهدفة و/أو تساعد في تخفيف الطلب على الأغذية المستهدفة.
ويمكن أن تهدف الإعانات الممنوحة للمنتجين الأفراد أو المستهلكين إلى حل مشاكل مثل محدودية توفر الائتمان أو التحفيز على سلوك يُعتبر مرغوبًا فيه من قبل صانعي السياسات. وبالنسبة إلى المنتجين، يمكن أن تكون هذه الإعانات "مقترنة" أي أنها مرتبطة بمستوى الإنتاج أو استخدام المدخلات أو عوامل أخرى في الإنتاج أو "غير مقترنة" أي أنها غير مرتبطة بقرارات الإنتاج. وحين تكون الإعانات مقترنة، يمكنها أن تؤثر بشكل كبير على السلع التي ينبغي إنتاجها وتسويقها والمدخلات التي ينبغي استخدامها وكيفية استخدامها. أما بالنسبة إلى المستهلكين، يمكن أن تتخذ هذه الإعانات شكل إعانات غذائية أو تحويلات نقدية أو تحويلات غذائية عينية أو برامج تغذية مدرسية كوسيلة لتحسين إمكانية الوصول إلى الأغذية.7
ويجري وضع هذه السياسات العامة وصياغتها من خلال القوانين والأنظمة. وتُستخدم هذه الأطر الإلزامية لوضع المعايير والأهداف التي تؤثر بشكل مباشر على قرارات الجهات الفاعلة في مجال الأغذية الزراعية. ومثال على ذلك عندما تقوم الحكومات بتقييد واردات بعض السلع أو المنتجات من خلال فرض حواجز غير جمركية، أو عندما تحظّر استخدام مدخلات زراعية محددة ثبت أنها ضارة بصحة الإنسان أو سلامة البيئة.
وتقدّم الحكومات الدعم للخدمات العامة من أجل تحسين أداء النظم الزراعية والغذائية. ويعتمد الدعم المحدد على السياق، ولكنه قد يشمل الاستثمارات في البحث والتطوير الزراعي، بما في ذلك نظم الرصد وتوليد البيانات ذات الصلة؛ وخدمات نقل المعارف (مثل التدريب والمساعدة الفنية وخدمات الإرشاد الأخرى)؛ والتفتيش والرقابة في ما يتعلق بسلامة المنتجات الزراعية والآفات والأمراض للتأكد من أن المنتجات الغذائية تتوافق مع أنظمة ومعايير سلامة المنتجات؛ وتطوير البنية التحتية والحفاظ عليها؛ والاحتفاظ بمخزونات حكومية، بما في ذلك الحفاظ على الاحتياطيات وإدارتها من خلال تدخلات شرائية في السوق؛ وخدمات التسويق الغذائي والزراعي والترويج لها.7 وتهيئ مثل هذه الاستثمارات بيئة مؤاتية لتحويل النظم الزراعية والغذائية.
ويمكن للحكومات وأصحاب المصلحة الآخرين استخدام السياسات المستندة إلى رؤى مستمدة من علم الاجتماع السلوكي ودراسات علم النفس بهدف معالجة الأسباب الكامنة وراء بعض السلوكيات، مثل استهلاك الأغذية المجهَّزة غير الصحية.8 ويشار إلى تلك الرؤى في هذا التقرير على أنها سياسات سلوكية وهي تختلف عن السياسات الأخرى، مثل الضرائب والإعانات، إذ إنها لا تحد من حرية الناس في الاختيار أو تفرض عليهم أي تكاليف كبيرة لتحفيزهم على تغيير السلوك. وعوضًا عن ذلك، فإنها تعمل على تغيير السياقات أو البيئات التي تُتخذ فيها القرارات. وفي سياق استهلاك الأغذية الذي تهيمن عليه الأغذية المجهَّزة غير الصحية، على سبيل المثال، قد تركز السياسات السلوكية على إنشاء أو تعزيز بيئة مؤاتية تشجع على عرض الأغذية المغذية (انظر المسرد) واستهلاكها. ويمكنها توفير رؤى للحكومات حول تنظيم البيئة الغذائية بغية تحقيق أهداف معينة، مثل تشجيع اتباع الأنماط الغذائية الصحية التي تكون أيضًا صديقة للبيئة. وعلى سبيل المثال، يمكن للسياسات السلوكية أن تحاول دفع المستهلكين نحو خيارات غذائية أفضل، مثل إتاحة خيارات غذائية مغذية في مواقع حول المقاصف المدرسية، ما يسهّل الوصول إليها.9 ويمكنها أيضًا تنظيم سلوكيات الأعمال التجارية الغذائية (مثل المتاجر الكبيرة) للترويج بصورة أفضل لتناول الأغذية الصحية.
ويمكن أيضًا إدارة بعض الأدوات المساعدة من قبل الجهات الفاعلة في مجال الأغذية الزراعية من القطاع الخاص والمجتمع المدني، فضلًا عن الجهات المانحة والمنظمات الدولية. وعلى سبيل المثال، يمثّل رأس المال الخاص لدى الأعمال التجارية والمؤسسات المالية وحتى المستهلكين أحد أهم الأدوات المساعدة في النظم الزراعية والغذائية، حيث يصل إلى قرابة 9 تريليون دولار أمريكي سنويًا.10 وخلصت دراسات مختلفة إلى أنّ رأس المال الخاص يؤدي دورًا ناجحًا في تحسين تقنيات وتكنولوجيات الإنتاج الزراعي.11 وهناك أداة مساعدة أخرى هي المعايير الطوعية، وهي قواعد أو مبادئ توجيهية غير إلزامية أو خصائص بشأن منتج أو عملية طورتها الجهات الفاعلة في القطاع الخاص أو ممثلو المجتمع المدني أو وكالات القطاع العام. والمعايير الطوعية هي وسيلة للمنتجين والمصنعين وتجار التجزئة من أجل تبادل المعلومات مع المستهلكين، ما يمكّنهم من التأثير على عمليات الإنتاج وطرقه وممارساته من خلال خياراتهم الاستهلاكية.12 وحيث إنّ رأس المال الخاص والمعايير الطوعية لا يقوم بتشريعها صانعو السياسات، لا تزال الحكومات تؤدي دورًا مهمًا في صياغة أدائها وتأثيرها من خلال توفير البيئة المؤاتية والإشراف.
وأخيرًا، يوضح الشكل 1 مدى أهمية إدراج التقييم الشامل للنظم الزراعية والغذائية في عملية صنع القرار لتحقيق العديد من أهداف التنمية المستدامة، إن لم يكن كلها. ويربط القسم السفلي بعنوان "المساهمات في الرفاه"، تأثيرات النظم الزراعية والغذائية بخطة التنمية المستدامة لعام 2030، وهي خطة عمل من أجل الناس وكوكب الأرض والازدهار. ويكتسي الأثر الذي يمكن أن تخلفّه على الهدف 1 من أهداف التنمية المستدامة (القضاء على الفقر)، والهدف 2 (القضاء على الجوع)، والهدف 3 (الصحة الجيدة والرفاه) أهمية خاصة نظرًا إلى أهمية النظم الزراعية والغذائية بالنسبة إلى الإنتاجية الزراعية وسبل العيش الريفية والصحة والأمن الغذائي والتغذية. وإنّ الانتقال إلى النظم الزراعية والغذائية المستدامة الناجمة عن تحسين عملية صنع القرار يعني أيضًا إحراز تقدم في تحقيق الهدف 6 من أهداف التنمية المستدامة (المياه النظيفة والنظافة الصحية)، والهدف 7 (طاقة نظيفة وبأسعار معقولة)، والهدف 12 (الإنتاج والاستهلاك المسؤولان)، والأهداف 13 و14 و15 المتعلقة بالعمل المناخي، والحياة تحت الماء والحياة على الأرض. وسيعتمد هذا التحوّل على التكنولوجيات الجديدة التي يمكن أن تكون بمثابة حافز للتقدم نحو تحقيق الهدف 9 من أهداف التنمية المستدامة (الصناعة والابتكار والبنية التحتية). ومن خلال تقييم طريقة تكوين رأس المال البشري وإدارته، يمكن أيضًا تحسين حصول العمّال على التعليم (الهدف 4)، والحد من عدم المساواة بين الجنسين (الهدف 5)، والمساهمة في العمل اللائق والنمو الاقتصادي (الهدف 8).
بإمكان الأدوات المساعدة توجيه النظم إلى المسار الصحيح، لكن لا بدّ من تحسين المحاسبة الخاصة بالنظم الزراعية والغذائية
حين لا يتوفر لصانعي السياسات تقييم شامل لمخزون رأس المال وتدفقاته، يؤدي ذلك إلى نشوء فجوة معرفية قادرة على إعاقة التقدم نحو تحقيق نظم زراعية وغذائية أكثر استدامة وقدرة على الصمود. وعلى سبيل المثال، من المقدَّر أنّ الحكومات أنفقت في المتوسط نحو 630 مليار دولار أمريكي في السنة أثناء الفترة 2013–2018 على الدعم الغذائي والزراعي، وكانت نسبة 70 في المائة من ذاك الدعم موجهة إلى المنتجين الأفراد على شكل حوافز للأسعار وإعانات. بيد أنّ نسبة كبيرة من هذا الدعم يشوه أسعار السوق وهو غير مستدام.7 ويقدّم الإطار 1 لمحة عامة عن حالة الدعم العام للأغذية والزراعة وأثره على النظم الزراعية والغذائية.
الإطار 1الدعم العام المقدَّم للأغذية والزراعة ما زال يسبب تشوهات كبيرة
تدعم الحكومات الأهداف المتعددة الأوجه للنظم الزراعية والغذائية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والصحية من خلال صياغة خيارات الإنتاج والاستهلاك، وعن طريق التأثير في ديناميكيات سلسلة الإمداد والبيئات الغذائية. لكن الأدلة أشارت إلى أنّ معظم الدعم المقدم كان يسبب تشوهات كبيرةً ويمكن أن يفضي إلى نتائج غير مرغوبة، مثل العواقب البيئية السلبية أو المشاكل الصحية.7
ويوضح الشكل كيف يوزَّع دعم الأغذية والزراعة، باعتباره نسبة من قيمة الإنتاج، بحسب فئة الدخل ونوع الدعم (متوسط الفترة 2013–2018). ومن حيث القيمة المطلقة، استحوذت البلدان المرتفعة الدخل والبلدان المتوسطة الدخل من الشريحة العليا على الجزء الأكبر من الدعم، بمتوسط 313 مليار دولار أمريكي و311 مليار دولار أمريكي، على التوالي، مقارنة مع 11 مليار دولار أمريكي في البلدان المتوسطة الدخل من الشريحة الدنيا و-6 مليار دولار أمريكي في البلدان المنخفضة الدخل (القيمة السلبية تعني أنّ المجموعة محرومة من الدعم بشكل عام). وكحصة من قيمة الإنتاج، كانت حوافز الأسعار والإعانات المقدَّمة للمنتجين هي أهم أشكال الدعم في البلدان المرتفعة الدخل (بنسبة 22 في المائة) والبلدان المتوسطة الدخل من الشريحة العليا (بنسبة 16 في المائة). وفي كلتا مجموعتي الدخل، وخاصة في البلدان المتوسطة الدخل من الشريحة العليا، كانت غالبية الإعانات مرتبطة بالإنتاج أو استخدام المدخلات أو عوامل الإنتاج الأخرى (أي كانت مقترنة). ومن شأن هذا الاعتماد القوي على الدعم المقترن أن يؤدي إلى تحريف الأسعار وتثبيط إنتاج الأغذية المغذية التي لا تتلقى المستوى نفسه من الدعم. وبالمثل، تشير الأدلة إلى أنّ السلع الأساسية ذات البصمة الكربونية الأكبر في هذه البلدان، مثل لحوم الأبقار والحليب والأرزّ، كانت من بين السلع التي تتمتع بأكبر دعم بحوافز الأسعار.7
وفي البلدان المتوسطة الدخل من الشريحة الدنيا، وخاصة في البلدان المنخفضة الدخل، تقوم السياسات عادة بحماية المستهلكين وليس المنتجين. ويواجه المزارعون عوامل مثبطة تبقي الأسعار المحلية منخفضة، ما يؤثر سلبًا على قطاع الزراعة بصورة غير مباشرة، ويظهر ذلك من خلال القيم السلبية المرتبطة بحوافز الأسعار المبينة في الشكل. ونادرًا ما تمنح البلدان المنخفضة الدخل إعانات مالية للمنتجين (فهم يمثّلون نسبة 0.6 في المائة فقط من إجمالي قيمة الإنتاج)، بينما يتلقى بعض المزارعين في البلدان المتوسطة الدخل من الشريحة الدنيا الدعم على شكل إعانات للمدخلات. ويشكل الإنفاق على الخدمات العامة نسبة ضئيلة من إجمالي الدعم للأغذية والزراعة، على الرغم من قدرته على تعزيز الإنتاجية على المدى الطويل وخفض أسعار المواد الغذائية، بما في ذلك الأغذية المغذية.7 وعلى الرغم من هذه التحديات، فإنّ الأدلة المستمدة من 13 بلدًا من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى خلال الفترة 2004–2018 تشير إلى أنه، في أعقاب الإصلاحات الأخيرة، جرى تضييق نطاق بعض برامج دعم المدخلات ما أدى إلى زيادة الحيز المالي لتخصيص المزيد من الأموال للخدمات العامة والسلع العامة، ما يولد تأثيرات أكثر استدامة وواسعة النطاق.13 كما تتمتع البرامج التي تدعم المستهلكين بقدرتها على زيادة استهلاك الأغذية المغذية، خاصة عندما تستهدف الفئات الأشد ضعفًا. وقد أظهر الاستعراض نفسه الذي أجري بشأن أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى أنّ الإصلاحات الأخيرة أدت أيضًا إلى زيادة الإعانات المقدمة للمستهلكين على شكل تحويلات نقدية وتحويلات عينية وبرامج الوجبات المدرسية.
الشكل دعم الأغذية والزراعة كنسبة من قيمة الإنتاج، حسب فئة الدخل ونوع الدعم، متوسط الفترة 2013−2018
وحين يتوفر المزيد من المعلومات حول تأثيرات النظم الزراعية والغذائية وأوجه تكافلها مع رؤوس الأموال، سيكون صانعو السياسات أكثر قدرة على استخدام الدعم العام للأغذية والزراعة كأداة تحويلية من أجل توجيه النظم الزراعية والغذائية نحو الاستدامة والشمولية والقدرة على الصمود. وينطبق المبدأ نفسه على أصحاب المصلحة الآخرين، بمن فيهم المنتجون الزراعيون والأعمال التجارية، الذين يمكن لعواملهم المساعدة أن تؤدي إلى إحداث تغيير أكبر على نطاق النظام بأكمله إذا كان لديهم المزيد من المعلومات حول تأثيراتهم. ولذلك، فإن الخطوة الأولى المهمة التي ينبغي أن يتخذها أصحاب المصلحة، بمن فيهم الحكومات والشركات والمزارعون والمواطنون، هي جمع المعلومات المتاحة عن تدفقات رأس المال وتأثيراته.
وتكون البيانات المتاحة عادة والمدرجة عمومًا في عمليات التقييم الاقتصادية متعلقة برأس المال الإنتاجي، وإلى حد ما برأس المال البشري (على سبيل المثال، اليد العاملة والأجور). ويجري التعامل مع تدفقات رأس المال وتأثيراته ومراقبتهما من خلال آليات السوق، بحيث يمكن قياسها وتحديد كميتها بسهولة. وعلى النقيض من ذلك، فإنّ التدفقات والتأثيرات المتعلقة برأس المال الطبيعي والاجتماعي و(جزء من) رأس المال البشري لا تحظى بالمعاملة ذاتها، لذا فإن إدراجها في عمليات التقييم الاقتصادية جزئي للغاية وغير منهجي. وعلى سبيل المثال، مع أنّ الدخل والضرائب يدرجان في الناتج المحلي الإجمالي، إلّا أنّ توزيع هذه النتائج بين الجنسين والطبقات الاجتماعية (وعواقبها على الأمن الغذائي والتغذية، أي على رأس المال الاجتماعي) هي أقل وضوحًا. وبالمثل، مع أنّ المدخلات القائمة على السوق تتجسد بشكل مباشر في تكاليف الإنتاج الخاص التي يتكبدها المنتجون، إلّا أنّ مدخلات خدمات النظام الإيكولوجي (على سبيل المثال، التلقيح) لا يأتي ذكرها، مع أنها أساسية للإنتاجية الزراعية. وقد يؤدي عدم احتساب هذه الخدمات إلى إضعاف قدرة النظم الإيكولوجية على تقديمها في المستقبل، وهو مقياس مهم للاستدامة.14
بيد أنّ تحديد حجم تدفقات رأس المال وتأثيراته قد يكون معقدًا بسبب نقص البيانات أو لكون التدفقات نوعية الطابع. ويمكن ملاحظة ذلك في الشكل 2، الذي يقدّم شكلًا بيانيًا لرؤوس الأموال الأربعة ومجموعة مختارة من تدفقاتها مصنفة بحسب سهولة قياسها الكمي، من الأكثر سهولة إلى الأقل سهولة. فعلى سبيل المثال، من الممكن قياس تأثير النظم الزراعية والغذائية على الأمن الغذائي والتغذية، ولكنه يتطلب قدرًا كبيرًا من البيانات وتوظيف قدر كبير من القدرات. وبالنسبة إلى تدفقات رأس المال الاجتماعي الأخرى، مثل الشبكات الاجتماعية والمعرفة الثقافية، يُعتبر ذلك أصعب بكثير، إن لم يكن مستحيلًا. ويكون عادة قياس تدفقات رأس المال الطبيعي أسهل من قياس تدفقات رأس المال الاجتماعي، ولكن في بعض الحالات، قد يكون ذلك صعبًا للغاية (على سبيل المثال، التلقيح وفقدان الموائل). وفي الواقع، فإنّ سهولة القياس الكمي لكل تدفق من تدفقات رؤوس الأموال ستعتمد على الموارد والقدرات المتاحة، بدءًا من أمور مثل حشد الموارد وتطوير أساليب التقييم إلى تصميم الدراسات الاستقصائية وجمع البيانات وتحليلها. ويؤدي التطور المتزايد للتكنولوجيا ونُهج التقييم إلى زيادة الخيارات المتاحة وتقليل الموارد اللازمة لتخزين المعلومات والإبلاغ عنها والتحقق من صحتها ومعالجتها.15 وحتى عندما لا يجري قياس التدفقات المهمة بصورة كمية، سيكون من الممكن النظر فيها بطريقة نوعية.
الشكل 2 سهولة التحديد الكمي لتدفقات رأسمالية مختارة على نطاق شامل
وحين تكون القرارات معتمدة حصرًا على التدفقات الملاحظة عبر الأسواق، فإنها قد تؤدي إلى تخصيص الموارد بصورة تكون دون المستوى، وهو ما يعرف أيضًا باسم "فشل السوق". ونظرًا إلى إدراك الحكومات وأصحاب المصلحة الآخرين لحقيقة أنّ الأسواق غير قادرة على معالجة مشاكل عدم المساواة والعدالة الاجتماعية، أو الاستدامة البيئية، فإنهم يعملون على وضع السياسات وإنشاء المؤسسات اللازمة لمعالجة تلك المشاكل. لكن عندما يفشلون في القيام بذلك أو لا تكون لديهم القدرة على التدخل، فقد ينشأ أيضًا شكل من أشكال "الفشل المؤسسي" أو "فشل السياسات". ويتناول القسم التالي حالات الفشل تلك بمزيد من التفصيل ويقرّ بأنه لا بدّ من اتباع نهج لتقييم النظم الزراعية والغذائية بطريقة تتسم بالشمولية والشفافية من أجل معالجتها. وسيرد ذاك النهج لاحقًا في هذا الفصل.