يستند تقرير حالة الأغذية والزراعة، للمرة الأولى في عام 2024، إلى إصدار العام السابق الذي حدّد حجم التكاليف المستترة العالمية الأولية للنظم الزراعية والغذائية باستخدام حساب التكاليف الحقيقية – وهو نهج قائم على النظم يقيس الآثار البيئية والاجتماعية والصحية والاقتصادية المرئية وغير المرئية على حدٍّ سواءٍ الناشئة عن النظم الزراعية والغذائية. وكشف تقرير حالة الأغذية والزراعة لعام 2023 الذي استخدم البيانات المتاحة للعموم عن 154 بلدًا، عن أنه من المحتمل جدًّا أن تكون قيمة التكاليف المستترة العالمية للنظم الزراعية والغذائية قد تجاوزت 10 ترليونات دولار على أساس تكافؤ القوة الشرائية لعام 2020. ومن المرجح أن يكون هذا الرقم الأولي أكبر لولا المعوّقات التي تحدُّ من توافر البيانات والتي تحول دون تحديد قيمة عدد من مكونات التكاليف المستترة ذات الصلة في هذه البلدان البالغ عددها 154 بلدًا. وتتمثل نتيجة بارزة في أن التكاليف المستترة العالمية مدفوعة إلى حدٍّ كبيرٍ بالتكاليف الصحية المستترة، تليها التكاليف البيئية المستترة في البلدان المتوسطة الدخل من الشريحة العليا والبلدان المرتفعة الدخل. وتغلب التكاليف الاجتماعية المستترة الناشئة عن الفقر والنقص التغذوي في البلدان المنخفضة الدخل والبلدان المتوسطة الدخل من الشريحة الدنيا.

وانطلاقًا من هذه الخلفية، تتسع الرؤى العالمية بشأن تحويل النظم الزراعية والغذائية. ويتطلب هذا التحويل تكوين فهم أعمق للنظم الزراعية والغذائية الوطنية وتكاليفها المستترة من أجل تحديد عناصر مساعدة واضحة على مستوى السياسات. ونتيجة لذلك، يقوم تقرير حالة الأغذية والزراعة 2024 بتنقيح التقديرات العالمية المعروضة في إصدار عام 2023 مع تقديم بيان تفصيلي عن التكاليف الصحية المستترة في 156 بلدًا، ويمضي قدمًا بعرض عمليات تقييم محددة الأهداف لحساب التكاليف الحقيقية من خلال دراسات حالة. وتمكّن عمليات التقييم المحددة الأهداف لحساب التكاليف الحقيقية من إجراء مشاورات مع أصحاب المصلحة وتحديد العناصر المساعدة اللازمة على مستوى السياسات لمعالجة الدوافع الرئيسية الكامنة وراء التكاليف المستترة، وتشكل بالتالي شرطًا مسبقًا أساسيًا لنجاح التحوّل على أي نطاق كان.

التكاليف المستترة العالمية المحدَّدة كمّيًا والناشئة عن النظم الزراعية والغذائية

مراجعة تقديرات عام 2023 وتنقيحها

بلغت قيمة التكاليف المستترة المحدَّدة كمّيًا في إصدار عام 2023 من هذا التقرير ما مقداره 12.7 ترليونات دولار على أساس تكافؤ القوة الشرائية لعام 2020 في عام 2020، منها أكثر من 9 ترليونات دولار (أو 73 في المائة) ناجمة عن التكاليف المتصلة بالصحة. ونظرًا إلى النسبة الساحقة من التكاليف المستترة المتصلة بالصحة والمرتبطة بنماذج الأنماط الغذائية التي تؤدي إلى السمنة والأمراض غير المعدية، يُجري إصدار عام 2024 هذا ثلاثة تنقيحات على تحديدها الكمي. فهو يحذف أولًا التكاليف المستترة للرقم القياسي المرتفع لكتلة الجسم، ذلك أنه من الممكن أن يكون هذا الأخير مدفوعًا بعوامل غير النظم الزراعية والغذائية. وثانيًا، تمت إضافة التكاليف الصحية المستترة الناشئة عن الأنماط الغذائية التي تحتوي على نسبة عالية من المشروبات المحلّاة بالسكر، والتي تم استبعادها سابقًا لتجنّب الازدواجية في حسابها مع الرقم القياسي لكتلة الجسم. وثالثًا، يتم تقسيم التكاليف الصحية المستترة الآن بحسب عوامل الخطر الغذائية المتصلة بالأمراض غير المعدية والمستمدة من دراسة عبء المرض العالمي للمساعدة على تحديد عناصر مساعدة واقعية أكثر على مستوى السياسات.

ونتيجة لهذه التنقيحات، تبلغ قيمة التكاليف المستترة الجديدة المحدَّدة كمّيًا ما مقداره 11.6 ترليونات دولار على أساس تكافؤ القوة الشرائية لعام 2020 في 156 بلدًا حول العالم، مع انخفاض التكاليف الصحية المستترة بحوالي 13 في المائة إلى 8.1 ترليون دولار على أساس تكافؤ القوة الشرائية لعام 2020، ولكنها تظل مع ذلك تساوي 70 في المائة من التكاليف المستترة العالمية، ما يؤكّد استنتاجات إصدار عام 2023 بشأن ضرورة اتخاذ إجراءات استراتيجية عاجلة. ويخلص هذا التقرير الذي يقسّم النتائج بحسب المخاطر الغذائية المتصلة بالأمراض غير المعدية، إلى أن الأنماط الغذائية التي تحتوي على نسبة قليلة من الحبوب الكاملة تشكل مصدر قلق (18 في المائة من التكاليف الصحية المستترة العالمية المحدَّدة كمّيًا) شأنها شأن الأنماط الغذائية التي تحتوي على نسبة عالية من الصوديوم ونسبة قليلة من الفاكهة (16 في المائة لكل منها)، رغم وجود تباين كبير بين مختلف النظم الزراعية والغذائية.

تصنيف النظم الزراعية والغذائية لتحديد السياسات الخاصة بكل سياق

لتيسير رفع توصيات سياساتية تتناسب بشكل أفضل مع السياقات المحددة، يُجري هذا التقرير تحليلًا للتكاليف المستترة المحدَّدة كمّيًا من منظور تصنيفٍ للنظم الزراعية والغذائية يشمل 153 بلدًا ويضم ست فئات – تشهد أزمة طويلة الأمد، وتقليدية، وآخذة في التوسّع، وآخذة في التنوع، وذات طابع رسمي، وصناعية. وتم استخدام مجموعة من أربعة متغيّرات تشمل القيمة المضافة الزراعية لكل عامل، وعدد المتاجر الكبرى للفرد الواحد، وتنوع الأنماط الغذائية، والتوسّع الحضري، لتهيئة هذا التصنيف الذي أثبت أنه يرتبط بشكل وثيق بعدد من المؤشرات ذات الصلة بتحويل النظم الزراعية والغذائية بشكل مستدام.

وتشكل النظم الزراعية والغذائية الصناعية والآخذة في التنوع العامل المساهم الأكبر في التكاليف المستترة العالمية المحدَّدة كمّيًا (حيث تضيف مبلغًا يصل إلى 5.9 ترليونات دولار على أساس تكافؤ القوة الشرائية لعام 2020) التي تهيمن عليها التكاليف الصحية المستترة المرتبطة بالأمراض غير المعدية. وتشكل هذه التكاليف الصحية المستترة أيضًا حصة كبيرة من إجمالي التكاليف المستترة المحدَّدة كمّيًا والناشئة عن نظم زراعية وغذائية أخرى، باستثناء النظم المصنّفة على أنها تشهد أزمة طويلة الأمد.

ويعطي عرض التكاليف المستترة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي فكرة عن العبء الذي يتحمله الاقتصاد. وفي هذا الصدد، إن عبء التكاليف المستترة هو الأكبر في البلدان التي تشهد أزمة طويلة الأمد (47 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي) والبلدان التي لديها نظم زراعية وغذائية تقليدية (23 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي)، وحيث تكتسي التكاليف الاجتماعية المستترة أهمية خاصة. ويقلّ عبء التكاليف المستترة كلّما تحوّلت النظم الزراعية والغذائية إلى نظم صناعية (6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي)، والأمر سيّان بالنسبة إلى أهمية التكاليف الاجتماعية المستترة.

وإنّ عبء التكاليف الصحية المستترة المرتبطة بالأمراض غير المعدية هو الأكبر في فئة النظم الزراعية والغذائية الآخذة في التنوع (10 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي) ويقلّ كلّما تحوّلت هذه النظم إلى نظم صناعية وذات طابع رسمي. ويعكس هذا النمط التحوّل في الأنماط الغذائية الذي يرافق التحوّل الهيكلي. ويعكس تناقص حصة التكاليف الصحية المستترة من الناتج المحلي الإجمالي في النظم الصناعية وذات الطابع الرسمي أيضًا تزايد القدرات المالية والمؤسسية ووجود نظم صحية أفضل لمعالجة عبء التكاليف الصحية المستترة المرتبطة بالأمراض غير المعدية، فضلًا عن زيادة أكبر في الطلب على الأنماط الغذائية الصحية بموازاة ارتفاع المداخيل.

وتتسم عوامل الخطر الغذائية المرتبطة بالأمراض غير المعدية والكامنة وراء التكاليف المستترة المتصلة بالصحة بتنوع كبير أيضًا عبر مختلف النظم، ولذلك يمكن أن يساعد تقسيمها على تكوين فكرة أوضح عن العناصر المساعدة المحتملة. وتشكل الأنماط الغذائية التي تحتوي على نسبة قليلة من الحبوب الكاملة عامل الخطر الرئيسي في جميع فئات النظم الزراعية والغذائية، باستثناء النظم التقليدية والتي تشهد أزمة طويلة الأمد. ففي هاتين الفئتين الأخيرتين، تغلب الأنماط الغذائية التي تحتوي على نسبة قليلة من الفاكهة والخضار بالرغم من اتسامها بالأهمية في الفئات الأخرى أيضًا. وتشكل الأنماط الغذائية التي تحتوي على نسبة عالية من الصوديوم مشكلة أيضًا، وتشهد زيادة منتظمة كلما تحوّلت النظم الزراعية والغذائية من نظم تقليدية إلى نظم ذات طابع رسمي حيث تبلغ ذروتها قبل أن تتراجع في النظم الزراعية والغذائية الصناعية. وفي المقابل، تتزايد الأنماط الغذائية التي تحتوي على نسبة عالية من اللحوم المجهزة والحمراء بشكل مستمر مع تحوّل النظم الزراعية والغذائية من نظم تقليدية إلى نظم صناعية حيث تُعد من بين المخاطر الغذائية الثلاثة الرئيسية.

قدرة النظم الزراعية والغذائية على تنفيذ الإجراءات التحويلية

ستتوقف قدرة البلدان على اتخاذ إجراءات تحويلية إلى حدّ ما على الحيّز المؤسسي والضريبي، وهياكل سلسلة الإمدادات، والبيئات الغذائية فيها والتي تختلف بشكل كبير عبر فئات النظم الزراعية والغذائية.

ولدى البلدان والأراضي في النظم الزراعية والغذائية الصناعية وذات الطابع الرسمي أكبر قدر من الموارد المتاحة لإعادة توجيه الدعم الحكومي نحو أنماط غذائية آمنة ومغذية إلى جانب أنماط إنتاج واستهلاك مستدامة وشاملة للأغذية. وتتميّز هاتان الفئتان أيضًا بأعلى درجات مؤشر فعالية الحكومات – أي القدرة الإجمالية التي تملكها الحكومات على وضع سياسات تحويلية – وأعلى مستوى من تغطية الحماية الاجتماعية.

وتواجه النظم الآخذة في التنوع تحديات كبيرة بسبب قلّة فعالية الحكومات والحيّز الضريبي الضيّق. ويتحمّل تنويع الأنماط الغذائية، من بين جميع فئات النظم الزراعية والغذائية، العبء الأكبر من التكاليف الصحية المستترة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي. وإضافة إلى ذلك، تعجز نسبة 27 في المائة من الأشخاص الذين يعيشون في هذه البلدان عن تحمّل كلفة نمط غذائي صحي، ما يشير إلى أنه بالإضافة إلى المخاطر الغذائية التي تؤدي إلى الإصابة بأمراض غير معدية، يواجه هؤلاء الأشخاص عبء سوء التغذية الذي يؤدي إلى التقزم والهزال. وتحتاج البلدان المدرجة في هذه الفئة إلى اتخاذ إجراءات سياساتية تستهدف بشكل خاص مختلف أنواع المخاطر الغذائية المطروحة والقدرة على تحمّل كلفة الأغذية المغذية.

ويعتبر أداء البلدان والأقاليم التي تشهد أزمة طويلة الأمد الأسوأ في ما يتعلّق بمعظم مؤشرات النظم الزراعية والغذائية، حيث تكون مستويات فعالية الحكومة، والدعم الزراعي، وتغطية الحماية الاجتماعية، وكثافة استخدام الأسمدة، وإمدادات شبكة الكهرباء في الأرياف، منخفضة بشكل خاص. وتبرز في هذه البلدان بالفعل التكاليف الاجتماعية والبيئية المستترة (حيث تبلغ في المتوسط 18 و20 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي على التوالي). ويعود ذلك على الأرجح إلى الحلقة المفرغة من عوامل الإجهاد الاجتماعي والبيئي والنزاعات. وفي حين يمكن للتدخلات القصيرة الأجل في النظم الزراعية والغذائية في مثل هذه الحالات أن تركّز على المساعدة الغذائية، يمكن للإجراءات المتوسطة والطويلة الأجل الرامية إلى معالجة عوامل الإجهاد البيئي والفقر والإدماج الاجتماعي أن تشكل خطوة أولى باتجاه قيام نظم زراعية وغذائية قادرة على كسر هذه الحلقة المفرغة.

مشاركة أصحاب المصلحة وتحليل السيناريوهات لمعالجة التكاليف المستترة المحدَّدة كمّيًا والناشئة عن النظم الزراعية والغذائية

تعتبر المشاورات الوطنية مع أصحاب المصلحة ضرورية لتقييم معقولية التكاليف المستترة المحدَّدة كمّيًا (بما في ذلك عمليات التقييم المحددة الأهداف)، والإقرار بالفجوات في البيانات وربّما سدّها، وتحديد سياق التحديات بالاستناد إلى الأولويات والالتزامات الوطنية. ويشكل تحليل السيناريوهات، بما في ذلك محاكاة الآفاق المستقبلية البديلة، أداة أساسية أخرى تسترشد بها الإجراءات السياساتية في عمليات التقييم المحددة الأهداف. وكلّف هذا التقرير الاتحاد المعني بالأغذية، والزراعة، والتنوع البيولوجي، واستخدام الأراضي، والطاقة بإجراء ست دراسات حالة قطرية في إثيوبيا، وأستراليا، والبرازيل، وكولومبيا، والمملكة المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وأيرلندا الشمالية، والهند. وتجمع دراسات الحالة هذه التي تمثل أنواعًا مختلفة من النظم الزراعية والغذائية وفقًا للتصنيف المعروض في هذا التقرير، بين السيناريوهات (القائمة على المشاورات مع أصحاب المصلحة) وحساب التكاليف الحقيقية للتكاليف المستترة الناشئة عن النظم الزراعية والغذائية.

وتم تقييم ثلاثة سيناريوهات في كل بلد، هي: (1) سيناريو الاتجاهات الحالية الذي ينطوي على رؤية ذات مستوى منخفض من الطموح لاتخاذ إجراءات مجدية من أجل إقامة نظم زراعية وغذائية مستدامة، والذي يتوقف بشكل كبير على السياسات الراهنة؛ (2) وسيناريو الالتزامات الوطنية الذي يعكس الإجراءات اللازمة لتحقيق الالتزامات والأهداف الوطنية القائمة؛ (3) وسيناريو الاستدامة العالمية الذي يعادل الجهود التي تتماشى مع تحقيق مقاصد الاستدامة العالمية.

وقامت المشاورات مع أصحاب المصلحة بتحديد المتغيّرات المهمة وطنيًا التي يجب أن تتغيّر لزيادة استدامة نظمها الزراعية والغذائية. وشملت هذه المتغيرات إجراء تحسينات في إنتاجية المحاصيل والثروة الحيوانية وخفض معدلات التخزين (كثافة المجترات) في المراعي والحدّ من الخسائر ما بعد الحصاد في جميع البلدان. وتم إدراج منع إزالة الغابات وزيادة التشجير في سيناريو الالتزامات الوطنية وسيناريو الاستدامة العالمية. وتشمل المتغيّرات الأخرى التي نظر فيها بعض البلدان التغيّرات في التجارة، والوقود الأحيائي، وممارسات الزراعة الإيكولوجية، ومناطق الريّ. وتُعتبر التغيّرات في الأنماط الغذائية من أجل التوصل إلى أنماط استهلاك صحية أكثر، عاملًا رئيسيًا أيضًا.

وتُظهر نتائج تحليل السيناريوهات تباينًا كبيرًا بين البلدان في ما يتعلّق بالنتائج المنمذجة الأكثر فعالية في خفض التكاليف المستترة للنظم الزراعية والغذائية. ولكن، يمكن ملاحظة نمط مثير للاهتمام بالاستناد إلى تصنيف النظم الزراعية والغذائية. فبالنسبة إلى غالبية النظم الزراعية والغذائية التي تمت دراستها والتي تندرج ضمن فئتي النظم الصناعية والتي تمرّ بمرحلة انتقالية، لا يشكل تغيير نماذج الأنماط الغذائية الوسيلة الرئيسية لخفض التكاليف الصحية المستترة المحدَّدة كمّيًا فحسب، وإنما أيضًا وسيلة فعالة جدًا لخفض التكاليف البيئية المستترة المحدَّدة كمّيًا من خلال تحرير الأراضي، وخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري واحتجازها، وخفض انبعاثات النيتروجين.

وكان دور المشاورات مع أصحاب المصلحة في تحديد العناصر المساعدة المناسبة وطنيًا واضحًا بشكل خاص في دراسة حظيت بدعم الحكومة السويسرية. وكان وجود التزام وطني بتحويل النظم الزراعية والغذائية واحدًا من أهم عوامل التمكين لهذه العملية. وتوفر هذه النتائج مصادقة أوّلية على التكاليف المستترة التي تم تحديدها كمّيًا في تقرير حالة الأغذية والزراعة 2023 وتشير إلى أن عمليات التقييم الوطنية لمكونات التكاليف المستترة نفسها تقع ضمن حدود عدم اليقين السائد في تقييم عام 2023 المتعلّق بسويسرا. وترسل التقديرات المنقحة والمعدّلة للتكاليف المستترة رسالة بسيطة نسبيًا وهو أنه يمكن لنقاط الدخول الرئيسية لتحويل النظم الزراعية والغذائية أن تركّز على معالجة نماذج الأنماط الغذائية، وفقدان التنوع البيولوجي، وانبعاثات غازات الاحتباس الحراري.

وتبرز أهمية مشاركة أصحاب المصلحة أيضًا بوضوح في تطبيق إطار تقييم الأغذية والزراعة التابع لمبادرة اقتصاد النظم الإيكولوجية والتنوع البيولوجي في عدّة بلدان والذي يوفر أمثلة إضافية على الجمع بين العملية التشاورية لرسم السيناريوهات وحساب التكاليف الحقيقية. ويعتمد هذا الإطار استراتيجية شاملة للتدخلات في مجال السياسات الرامية إلى تحويل النظم الزراعية والغذائية. فبعد مرحلة تحديد النطاق التي تهدف إلى جمع الأفكار الثاقبة من الوثائق، وتحديد أصحاب المصلحة، وإجراء تقييم أوّلي للتدخلات في مجال السياسات، يتم رسم خريطة بالسياسات لتحديد المناسب منها وآليات حوكمتها. ويتم بعد ذلك وضع مشاريع تجريبية لتكون بمثابة نماذج لسيناريوهات التدخلات في مجال السياسات. وأخيرًا، يتم إطلاق مبادرات اتصال وتواصل من أجل تحسين الوعي وفهم أهمية دمج قيَم الطبيعة (المستترة والمرئية) في عمليات صنع القرارات الحكومية والتثقيف.

نظرة فاحصة عن الأطراف التي تتحمّل الجزء الأكبر من التكاليف المستترة للنظم الزراعية والغذائية

تشمل الجهات الفاعلة الرئيسية التي تتوقف قراراتها على القيمة التي توفرها النظم الزراعية والغذائية وتتأثر بها، كلًا من موردي المدخلات والمنتجين، والمجهزين وتجّار الجملة، وتجّار التجزئة ومقدمي الخدمات الغذائية والمستهلكين. وتترتب عن القرارات التي تتخذها جهة فاعلة واحدة في وقت من الأوقات وفي مكان معيّن، آثار على الجهات الفاعلة الأخرى في وقت أو مكان آخرين. وقد لا يدرك المستهلكون قيمة تحسين كفاءة استخدام الأسمدة في المزارع التي تُنتج أغذيتهم في منطقة أو بلد آخر على سبيل المثال. وبالمثل، قد لا يدرك منتجو الأغذية العالية التجهيز فائدة تغيير تركيبة منتجاتهم إذا كان المجتمع بكامله سيتحمّل في المستقبل بشكل خاص عبء التكاليف المستترة المتصلة بهذه المنتجات.

وكلّما اتسعت الفجوة بين منتجي التكاليف المستترة والأطراف التي تتحمّلها، تصبح المنافع التي يعود بها تحويل النظم الزراعية والغذائية على المجتمع وكوكب الأرض أقل وضوحًا. وقد يصبح من المستحيل سدّ هذه الفجوة في حال حدث الضرر في المستقبل البعيد أو في الخارج. وتشكل أوجه عدم المساواة الموجودة على مستوى أبعاد عديدة (مثل الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية، والجنسانية، والخاصة بالأجيال) بين من يستفيد من إنتاج التكاليف المستترة ومن يتحمّل هذه التكاليف، واحدًا من التحديات الرئيسية التي ينطوي عليها تحويل النظم الزراعية والغذائية العالمية. ويكتسي دور الحكومات والمنظمات الحكومية الدولية أهمية خاصة في الحالات التي يلزم فيها إجراء تحويلات دولية أو بين الأجيال للتصدي لأوجه عدم المساواة هذه.

وتشير التقديرات إلى أن حوالي 1.23 مليار شخص يعملون بشكل مباشر في النظم الزراعية والغذائية لجلب الطعام إلى موائدنا عن طريق سلاسل الإمدادات الغذائية. ومع أن النظم الزراعية والغذائية توفر العمالة في جميع أنحاء العالم، إلا أنها لا توفر دائمًا مستوى معيشيًا ملائمًا ونوعية حياة مقبولة. وفي الواقع، غالبًا ما يُترك السكان الضعفاء خلف الركب في مختلف النظم الزراعية والغذائية، بما في ذلك الفقراء، والأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي، وصغار الجهات الفاعلة في سلسلة القيمة، والمهاجرون، واللاجئون، والنساء، والأطفال، والشباب، والأشخاص ذوو الإعاقة، والشعوب الأصلية. وتتحمّل هذه المجموعات العبء الأكبر من التكاليف الاجتماعية المستترة للنظم الزراعية والغذائية.

ويطرح أيضًا الطابع غير الرسمي للعمليات في مجال الأغذية والزراعة مجموعة متداخلة من التحديات أمام تحويل النظم الزراعية والغذائية. ومع أن الأنشطة غير النظامية أو شبه النظامية تشكل مصدر الإيرادات والدخل الرئيسي لشرائح ضعيفة عديدة من المجتمع، إلا أنه يمكنها أن تحافظ على ظروف العمل السيئة (مثل عقود العمل غير النظامية) وألا تمتثل للأنظمة المتعلّقة بسلامة الأغذية والنظافة الصحية.

المنتجون في الخطوط الأمامية لتحويل النظم الزراعية والغذائية

يمكن أن يكون مفهوم الدخل الكافي للعيش أو المؤشر المرجعي للدخل الكافي للعيش، مفيدًا لإحداث التغيير بشكل فعال. ويشير هذا المفهوم إلى الدخل السنوي الصافي الذي تحتاج إليه أسرة معيشية ما في مكان معيّن لتوفير مستوى معيشي لائق لجميع أفرادها. وإن الفارق بين المؤشر المرجعي للدخل الكافي للعيش والإيرادات الفعلية ملحوظ بشكل خاص في قطاع الأغذية والزراعة حيث تتراوح الأرقام بين 50 و94 في المائة في الأسر المعيشية النموذجية لصغار المزارعين. ويُعتبر منظور الدخل الكافي للعيش مهمًا لأنه ينبغي على التحوّل الناجح للنظم الزراعية والغذائية أن يقرّ بالوضع الفريد للمنتجين: فهم أوّل من يتأثر بآثار تغيّر المناخ ويتحملون جزءًا كبيرًا من عبء اعتماد الممارسات المستدامة. وفي حين يلزم إحداث التغيّرات الضرورية لصالح المجتمع، إلا أن المنافع التي تعود بها معالجة التكاليف المستترة تتحقق على طول سلسلة الإمدادات، لكن المنتجين لا يحصلون دائمًا على تعويضات عن النفقات التي يتكبدونها في التصدي لهذه التكاليف. وبمعنى آخر، ينبغي وضع آليات للتخفيف من الأعباء المالية والإدارية، وبالتالي تحفيز التغيير التحوّلي. وإضافة إلى ذلك، يُعد الإقرار بالتنوع الموجود داخل القطاع الزراعي أمرًا بالغ الأهمية لوضع سياسات فعالة.

وعندما تتضافر جهود المنتجين الأفراد من خلال العمل الجماعي، يخلقون قوة تفاوضية يمكنهم الاستفادة منها لتحقيق أهدافهم المتعلّقة بالنمو الاقتصادي ولإحداث تغيير تحوّلي. وتؤكّد الاحتجاجات الأخيرة التي قام بها المزارعون حول العالم على أهمية إدماج اعتبارات الاقتصاد السياسي منذ البداية من خلال إطلاق عمليات شاملة تعالج قضايا العدالة في التوزيع والمشاركة. فقد تظاهر المزارعون الأوروبيون ضد السياسات المتبعة، وتزايد التعقيدات الروتينية، وتشديد القوانين البيئية. ولذلك، ينبغي تصميم التغيير التحوّلي حتى تقوم الأطراف التي تجني المنافع الطويلة الأجل بدفع تكاليف الإقدام على اتخاذ الإجراءات اليوم. وينبغي أن تمارَس الضغوط الحكومية لإصلاح النظم الزراعية والغذائية، سواء كانت على شكل أنظمة أو حوافز، بطريقة شاملة.

ويتمثل أحد الخيارات في المشاركة في برامج إصدار الشهادات العروفة بمعايير الاستدامة الطوعية، مثل شهادات التجارة العادلة أو الزراعة العضوية، والتي يمكنها أن تكون وسيلة يحصل المنتجون من خلالها على تعويض عن تكاليف التحوّل. ولكن، مع أن تأثير عمليات إصدار الشهادات هذه على رفاه المنتجين إيجابي بشكل عام، إلا أنه يتباين تباينًا كبيرًا بحسب المعايير والمحاصيل ومنظمات المزارعين. وتُحدث المعايير التي تطبّق نظام تسعير تفضيلي قائم على الجودة، الأثر الأكبر على الإيرادات الزراعية الصافية من خلال أثر تغيُّر السعر. ومن شأن خطط إصدار الشهادات التي تمكّن المنتجين من بيع منتجاتهم مع علاوة سعرية أن تيسّر استيعاب بعض التكاليف المستترة، ولكن ليس جميعها، تبعًا للأهداف المحددة لكل برنامج. وخلُصت دراسة تتعلّق بسلاسل إمدادات الموز إلى أن التكاليف الخارجية التي يتكبدها منتجو التجارة العادلة أدنى في المائة، الأمر الذي يُثبت الجدوى الاجتماعية من 45بنسبة معايير الجودة وعمليات إصدار الشهادات.

للأعمال التجارية الزراعية والمستثمرين دور هام يؤدونه

تضطلع الأعمال التجارية في النظم الزراعية والغذائية بأنشطة متعددة غير الإنتاج الأولي، بما في ذلك تجميع المنتجات الغذائية، ونقلها، وتجهيزها، وبيعها للمستهلكين. وتتراوح هذه الأعمال التجارية بين المؤسسات المتناهية الصغر والصغيرة والشركات العالمية، وتتفاوت مستويات التركّز في مختلف أنواع النظم الزراعية والغذائية. ويمكن لكل واحد من الأعمال التجارية الزراعية في السلسلة أن يمارس ضغطًا تجاريًا على العمل التجاري السابق تبعًا لحجمه وهيمنته على السوق.

وتتعرّض الأوساط المعنية بالاستثمارات – بما في ذلك المؤسسات المالية الدولية والبنوك وشركات التأمين – لضغوط متزايدة من جانب المستثمرين وأصحاب المصلحة لإدراج المسؤولية البيئية والاجتماعية في عملياتها. وبات من الواضح بشكل متزايد أنه ينبغي لأي استثمار في النظم الزراعية والغذائية أن يتخذ إجراءات احتياطية للمستقبل في ظل تغيّر المناخ. ويتردد صدى الفكرة القائلة إن "سير الأمور على النحو المعتاد يشكل طرحًا شديد الخطورة". وينعكس ذلك في تزايد مشاركة الشركات الكبيرة في إصدار التقارير بشأن أدائها البيئي والاجتماعي وعلى صعيد الحوكمة. ومن المثير للاهتمام أن ممارسات الأداء البيئي والاجتماعي وعلى صعيد الحوكمة التي تروّج لها الأعمال التجارية الزراعية والغذائية تطبَّق في الكثير من الأحيان على مستوى الإنتاج الأولي، فيما تتمتع جهات فاعلة أخرى في سلسلة الإمدادات بمنافع التغيّرات الحاصلة، الأمر الذي يسلّط الضوء مرّة أخرى على مسائل التوزيع على طول سلاسل القيمة.

وينبغي على الأعمال التجارية الزراعية والمؤسسات المالية التي لديها نفوذ أكبر أن تؤدي دورًا يتجاوز ممارسة التأثير على الجهات الفاعلة الأخرى، وذلك من خلال الاستثمار في ممارسات أفضل، سواء أكان ذلك من خلال الشؤون المالية، أو الترتيبات التعاقدية، أو المساعدة الفنية، أو بناء القدرات والتوعية بشكل عام. وبموازاة ذلك، تقوم منتديات من قبيل المنتدى العالمي للموز، بتشجيع التعاون بين مختلف مستويات سلاسل الإمدادات الغذائية ويمكنها أن تشكل وسيلة رئيسية لضمان تحقيق تحوّل عادل.

المستهلكون هم القطعة الأخيرة الحيويةمن الأحجية

يشكل المستهلكون أكبر مجموعة من الجهات الفاعلة في النظم الزراعية والغذائية في العالم بالرغم من افتقارهم إلى النفوذ والحضور على مستوى السياسات. وعندما يكون المستهلكون في موقع صفة الفاعل، يمكنهم أن يحدثوا التغيير التحوّلي اللازم في النظم الزراعية والغذائية من خلال قوتهم الشرائية.

ومن منظور بيئي، يمكن للتحوّلات في الأنماط الغذائية، ولا سيما الحد من الاستهلاك الإجمالي للمنتجات الحيوانية في البلدان التي يكون فيها هذا الاستهلاك مرتفعًا بشكل مفرط، أن تخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بشكل ملحوظ وأن تخفف من الأضرار البيئية الأخرى مثل فقدان التنوع البيولوجي، وتغيير استخدام الأراضي، والجريان السطحي للمغذيات. ولكن، نظرًا إلى التباينات الكبيرة في جودة الأنماط الغذائية حول العالم، قد تكون هناك حاجة في بعض الأماكن إلى استهلاك كميات أكبر من المنتجات الحيوانية للحصول على أنماط غذائية متوازنة وقد لا يكون من الممكن توزيع عبء التصدي للأضرار البيئية التي أحدثتها الثورة الصناعية توزيعًا عادلًا.

وفي بلدان عديدة، يواجه السكان عبئًا مزدوجًا لسوء التغذية، حيث يتواجد نقص التغذية جنبًا إلى جنب مع الوزن الزائد أو السمنة أو الأمراض غير المعدية المرتبطة بالنمط الغذائي، الأمر الذي قد يتطلب مزيجًا من التغيير في طلب المستهلكين، والتدابير الاقتصادية، وشبكات الأمان الاجتماعي. وإن معدل انتشار العبء المزدوج لسوء التغذية مرتفع بشكل خاص في البلدان التي لديها نظم زراعية وغذائية تقليدية وتشهد أزمة طويلة الأمد (70 في المائة)، وينخفض كلما اتجهنا نحو النظم الزراعية والغذائية الصناعية (27 في المائة). والعكس صحيح بالنسبة إلى السمنة والوزن الزائد لدى البالغين (من 30 في المائة في النظم الزراعية والغذائية التقليدية والتي تشهد أزمة طويلة الأمد إلى حوالي 60 في المائة في النظم الزراعية والغذائية الصناعية).

وينبغي إيلاء اعتبار خاص للحالة التغذوية للأطفال. فالأطفال الذين يعانون من نقص التغذية، وبخاصة قبل سن الخامسة، هم عرضة لآثار عميقة ودائمة على نموهم الجسدي والمعرفي. وعلى المستوى العالمي، تشير التقديرات إلى أنه في عام 2022 كان 148.1 مليون طفل دون سن الخامسة (22.3 في المائة) يعانون من التقزم، و45 مليون (6.8 في المائة) من الهزال، و37 مليون (5.6 في المائة) من الوزن الزائد. وتقوم منهجية طبّقها برنامج الأغذية العالمي وتُعرف باسم "كلفة الجوع"، بتقدير الآثار الاجتماعية والاقتصادية لنقص التغذية لدى الأطفال مع التركيز على قطاعات الصحة والتعليم والعمل. وتسلّط النتائج الضوء على الحاجة المشتركة بين القطاعات إلى التدخلات التغذوية في مرحلة الطفولة المبكرة.

وتتوقف قدرة القوة الشرائية للمستهلكين على إحداث التحوّل في النظم الزراعية والغذائية على قدرة هؤلاء المستهلكين واستعدادهم لدفع ثمن سلّة مختلفة من المنتجات الغذائية والتي قد يكون سعرها أعلى. ولكنّ القيود الاقتصادية لا تفسّر جميع سلوكيات المستهلكين. فتتسم التفضيلات الغذائية الناجمة عن الأذواق وعن الوقت والمهارات اللازمة لإعداد الطعام مثلًا، والحصول على الأغذية، والبيئات الغذائية، بالأهمية أيضًا. ولكن بشكل عام، يمكن أن يستفيد فرادى المستهلكين والمؤسسات التي لديها احتياجات كبيرة إلى شراء الأغذية، مثل المدارس والمستشفيات، من قوتهم الشرائية لتحقيق أهداف التحوّل ورفع مستوى الوعي في آن واحد.

الأدوات المساعدة الأخرى التي تؤثر علىطلب المستهلكين

يمكن للأدوات المساعدة الاقتصادية أن تؤثر على أنماط استهلاك الأسر المعيشية من خلال تنويع الأسعار النسبية أو المداخيل المتاحة لشراء الأغذية. وتشمل التدابير الخاصة بالأسعار كلًا من الضرائب ودعم المنتجات الغذائية. وعلى سبيل المثال، أدّت الضرائب على المشروبات المحلّاة بالسكر بلد، دورًا فعالًا في خفض 100والتي تم تطبيقها في أكثر من المبيعات وما يتصل بها من تكاليف صحية ناجمة عن السمنة والأمراض المزمنة. وفي المقابل، أتى دعم الفاكهة والخضار بنتائج إيجابية في الأماكن التي يتأثر فيها الطلب بالأسعار. ويمكن لإصلاح النظم الضريبية القائمة، مثل خفض الضريبة على القيمة المضافة المفروضة على الفاكهة والخضار، أن يعالج التكاليف البيئة والصحية من دون الحد من الإيرادات الحكومية. ويُعد الجمع بين هذه التدابير المالية والمعلومات المحسّنة، والتدابير المتعلّقة بالتوسيم، والأنظمة، والبرامج التثقيفية المتعلّقة بالتغذية والصحة والاستدامة، أمرًا ضروريًا لتغيير الأنماط الغذائية.

وتتوقف فعالية الضرائب والإعانات في تحسين الأنماط الغذائية على افتراض أن المستهلكين لا يواجهون قيودًا في ميزانيتهم تعيق تلبية احتياجاتهم التغذوية الأساسية. ويمكن للتدابير التي تستهدف الدخل أن تكون فعالة حيثما يظل النقص التغذوي يطرح مشكلة. وتشمل هذه التدابير شبكات الأمان الاجتماعي المراعية للتغذية والتي تحاول تحسين الأمن الغذائي، وتعزيز الإدماج الاجتماعي، والنهوض بجودة الأنماط الغذائية من خلال التحويلات النقدية أو القسائم التي تستكمل الدخل أو من خلال المساعدة الغذائية العينية. ويمكن للمشتريات المؤسسية، مثل الوجبات الغذائية في المدارس والمستشفيات، أن تحدث أثرًا مضاعفًا يؤدي إلى تغيير طويل الأجل. ويمكن للوجبات المدرسية التي تشكل شبكة الأمان الغذائي الأكثر انتشارًا، أن تكتسي أهمية بالغة بالنسبة إلى تغيير أنماط الاستهلاك على مر الأجيال عندما تترافق مع التثقيف الغذائي والتغذوي الفعال. ويمكن للكيانات المعنية بشراء الأغذية أن تحدث أثرًا عميقًا من خلال المطالبة ببيانات حساب التكاليف الحقيقية الخاصة بالمنتجات التي تشتريها وتغيير القرارات التي تصنعها من أجل تعظيم القيمة الحقيقية.

إشراك أصحاب المصلحة من أجل اتباع نهج قائم بحقّ على النظم لتحقيق التحوّل

سلّط هذا التقرير الضوء على الحاجة إلى توثيق الروابط بين المستفيدين من إجراءات اليوم التي يتخذها المنتجون، والأعمال التجارية الزراعية، والمستهلكون والأطراف التي تتحمّل التكاليف المستترة الناشئة عن هذه التدابير، سواء أكانت جهات فاعلة محلية أو عالمية من جيل الحاضر أو المستقبل القريب أو البعيد. ومن الضروري إشراك جميع الجهات الفاعلة المتكافلة ضمن النظم الزراعية والغذائية لتحديد العناصر المساعدة الفعالة باتجاه مسارات التنمية الأنسب.

فعلى سبيل المثال، في ظل تزايد ضغوط المستهلكين من أجل تحقيق الاستدامة ووسط الأنظمة التي تفرضها الحكومات على الصحة والبيئة، قامت الأعمال التجارية الزراعية والغذائية على تنظيم ذاتها منذ فترة طويلة. وتشكل معايير الاستدامة الطوعية، والإبلاغ عن الأداء البيئي والاجتماعي وعلى صعيد الحوكمة، والمحاسبة المتعددة المعايير، خطوات في الاتجاه الصحيح. ولكن هذه الخطوات ليست كافية لتحقيق التحوّل على نطاق واسع، خاصة وأنّ الأعمال التجارية الزراعية قد لا تستوفي إلا المعايير اللازمة للمحافظة على قيمة العلامة التجارية من دون الارتقاء إلى الإجراءات التحويلية. وينبغي بالتالي أن تترافق هذه المبادئ مع بنى تحفيزية وأنظمة وإجراءات حكومية محكمة التصميم، إلى جانب إعطاء توجيهات من المنظمات الدولية والمجتمع المعني بحساب التكاليف الحقيقة.

ورغم الأهمية العارمة للأنماط الصحية والمستدامة في عملية تحويل النظم الزراعية والغذائية، لا تزال وزارات الصحة غائبة بالإجمال عن الخطاب الحالي بشأن الإشراك اللازم لأصحاب المصلحة لتحقيق ذلك. فإشراكهم يعدّ الخطوة التالية الهامة لتحويل النظم الزراعية والغذائية على نطاق العالم، على اعتبار أنه حتى في الحالات التي لا تزال فيها التكاليف الصحية المستترة منخفضة نسبيًا، من شأن وجود وزارات الصحة على طاولة النقاش أن يضمن تصميم سلاسل قيمة الأغذية وشبكات السلامة الاجتماعية لطمر المشكلة قبل نشأتها أو تجنب الذروة التاريخية في الأنماط الغذائية غير الصحية خلال العمليات الانتقالية للنظم الزراعية والغذائية.

تحديد معالم السياسات الحكومية لتحقيق الأهداف المتعددة

قد تتخذ الحكومات قراراتها استنادًا إلى معلومات غير دقيقة بالكامل للوفاء بالتزاماتها الوطنية في إطار البنى الراهنة للنظم الزراعية والغذائية. ويقوم التقرير بتحليل التكاليف المستترة التي جرى تحديد قيمتها من خلال عدسة نمط محدد من النظم الزراعية والغذائية، ما من شأنه أن يسهّل إصدار توصيات سياساتية تلائم على نحو أفضل السياقات المحددة.

وفي النظم الزراعية والغذائية الصناعية – التي يكون فيها الإنتاج الأولي كثيف المدخلات، وسلاسل القيمة طويلة، ومعدل التوسّع الحضري مرتفع، والتي تولّد فيها نماذج الأنماط الغذائية غير الصحية أعلى التكاليف المستترة – يمكن إسناد الأولوية للتدخلات التي تتصدى لنماذج الأنماط الغذائية غير الصحية، وبالتالي معالجة جزء كبير من التكاليف البيئية المستترة أيضًا. ويشكل استكمال الخطوط التوجيهية بشأن الأنماط الغذائية القائمة على الأغذية بنهج النظم الزراعية والغذائية، وبطاقات توسيم المغذيات وإصدار الشهادات الإلزامية، والحملات الإعلامية بشأن الآثار الصحية والبيئية (بما في ذلك الإعلانات، والأنظمة المتعلّقة بالشفافية، ومعايير الإبلاغ)، عناصر مساعدة فعالة. ولكن، بما أن السياسات الهادفة إلى تغيير سلوك المستهلكين تستغرق وقتًا طويلًا لخفض التكاليف الصحية المستترة بصورة فعالة (وحتى جزئية)، فإنه لا يمكن تطبيق هذا العنصر المساعد على حساب الإجراءات التي ترمي إلى معالجة التكاليف البيئية المستترة. ويمكن لحساب التكاليف الحقيقية أن يساعد على تحليل القيمة التي تولّدها التدخلات المختلفة.

وفي النظم الزراعية والغذائية التقليدية – التي يتسم فيها الإنتاج الأولي بعدم الكفاءة، وتكون فيها سلاسل القيمة أقصر ومعدل التوسّع الحضري منخفضًا، والتي يولّد فيها الفقر والنقص التغذوي أعلى التكاليف المستترة – ستظل شبكات الأمان الاجتماعي عناصر مساعدة سياساتية أساسية لضمان الأمن الغذائي والتغذية للفئات الأضعف. وفي الوقت نفسه، يُعد العبء المزدوج لسوء التغذية الأكبر أيضًا في هذه النظم الزراعية والغذائية، ما يدلّ على الحاجة إلى استكمال التدخلات التقليدية المحسِّنة للإنتاجية بعناصر مساعدة بيئية وغذائية منذ البداية تفاديًا لزيادة البصمة البيئة وبلوغ الذروة في التكاليف الصحية التي تُلاحظ عادة خلال المراحل الانتقالية في النظم الزراعية والغذائية.

وتحتاج النظم الزراعية والغذائية التي تمرّ بمرحلة انتقالية (فئات النظم الآخذة في التوسّع، والآخذة في التنوع، وذات الطابع الرسمي) في الأماكن التي تتزايد فيها معدلات التوسّع الحضري وتصبح سلاسل القيمة أطول وتصل التكاليف الصحية المستترة إلى مستويات قياسية، إلى الاستثمار في إعادة تصميم عملية تطوير سلسلة القيمة الغذائية لتحويل مسار التحولات التغذوية، وتخطي بعض التحوّلات التاريخية، وتجنّب أخطاء النظم الزراعية والغذائية الصناعية.

وهناك كمّ متزايد من الأدلة المشجعة على فعالية مجموعات السياسات التي تمزج بين الحوافز الاقتصادية والسلوكية التقليدية، ولكنه يلزم إجراء المزيد من البحوث لتوسيع نطاق هذه الأدلة حتى تشمل النظم الزراعية والغذائية التقليدية والتي تمرّ بمرحلة انتقالية.

تمويل عملية التحول

بات من المؤكّد الآن أنه يجب زيادة التدفقات المالية إلى النظم الزراعية والغذائية بشكل ملحوظ لتمويل عملية التحوّل المطلوب. ويقوم العديد من المبادرات الواعدة التي يتخذها القطاع المالي بإدماج المسؤولية البيئية والاجتماعية بشكل متزايد في عملياتها. ولكن، يبدو أن توسيع نطاق هذه المبادرات بما فيه الكفاية لتحويل النظم الزراعية والغذائية العالمية مقيّد بـ"معوقات مستترة". وتشمل هذه الأخيرة المشاكل المتعلّقة بالتوزيع والتي تنشأ بين مختلف الجهات الفاعلة في النظم الزراعية والغذائية، والوضع المؤسسي الراهن الذي يجعل من الصعب جدًا تمويل التحوّلات اللازمة.

وتشير التقديرات إلى أن الكلفة العالمية للتحوّل تقع ضمن حدود الموارد المالية العالمية المتاحة؛ ولكن قد يكون التمويل ضروريًا في ظل عدم التكافؤ السائد في توزيع هذه الموارد بين البلدان. وتعاني البلدان المتأثرة بدوافع متعددة لانعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية وبالأحوال المناخية القصوى والنزاعات، بشكل خاص من محدودية فرص الوصول إلى التمويل، الأمر الذي يتطلب إقامة شراكات تمويلية مبتكرة وتعاونية لضمان تحقيق عملية انتقالية عادلة.

آفاق المستقبل

تتطلب معالجة التكاليف المستترة التي تم الكشف عنها في تقرير حالة الأغذية والزراعة 2023 وتنقيحها في هذا التقرير، معالجة مسائل التوزيع الراسخة في النظم الزراعية والغذائية العالمية والمحلية أيضًا. وعلى المستوى العالمي، تحدث الاختلالات في التوزيع بين السكان الذين يتمتعون بفوائد الوضع القائم والسكان الذين يتحملون التكاليف المستترة – والذين قد يظلون هم نفسهم في مرحلة ما في المستقبل أو أجيال قادمة يفصلها المكان والزمان عنهم. وحتى داخل الحدود الوطنية، هناك مقايضات بين مختلف المكوّنات كما تشهد على ذلك احتجاجات المزارعين الأخيرة في أنحاء عديدة من العالم.

ويتمثل أحد الشروط المسبقة الأساسية لتحويل أي نظام كبير ينطوي على ترابط بين جهات فاعلة لديها مصالح متداخلة ومتضاربة، في وجود بيئة مؤسسية وتنظيمية فعالة. ويؤدي وضع قواعد ومعايير واضحة وغرس الثقة بأنه سيتم تطبيقها بشكل عادل على جميع أصحاب المصلحة بغض النظر عن حجمهم أو نفوذهم السياسي، إلى التخفيف من عدم اليقين المحيط بالاستثمارات التي تساهم في تحقيق الاستدامة والتي تحفّز الابتكار.

ومن الواضح أيضًا أن إحداث التغيّرات اللازمة في الأنماط الغذائية لتحويل النظم الزراعية والغذائية سيتطلب مزيجًا من العناصر المساعدة. ويمكن أن تستخدم هذه الأخيرة مؤثرات اقتصادية مثل الضرائب والإعانات وشبكات الأمان الاجتماعي، أو أن تهدف إلى التأثير على تغيير السلوك من خلال زيادة الإلمام بالقضايا المتعلّقة بالأغذية ورفع مستوى الوعي بشأن الآثار المتعددة الأبعاد التي تحدثها الخيارات الغذائية المتاحة. ويمكن أن تؤدي المؤسسات أيضًا دورًا حاسمًا من خلال تيسير قيام بيئة غذائية فريدة، مثل المدارس التي توفر الوجبات الغذائية وتشرك الأطفال في الأنشطة العملية وأنشطة صقل المهارات المتعلّقة بالأغذية، وأن تقوم في الوقت نفسه بتوجيه مشترياتها نحو تحقيق مصلحة المجتمع الأوسع نطاقًا.

وفي حين يمكن أن يأمل المجتمع العالمي دائمًا في أن تحلّ الابتكارات العديد من المشاكل التي تعاني منها النظم الزراعية والغذائية – والتي تتمثل في الوقت الراهن بشكل أساسي في الحوافز للابتكار المدفوعة من السوق وما يمكن أن يرافقها من قيود على الاقتصاد السياسي – إلا أنه ليس من المرجح أن يوجّه الابتكار وحده النظم الزراعية والغذائية نحو الاستدامة. وينبغي تحويل الحوكمة في مختلف النظم الزراعية والغذائية من خلال الإرادة السياسية والمساءلة القوية على المستوى الدولي.

back to top