يعدّ تحليل السيناريوهات، بما في ذلك محاكاة أشكال المستقبل البديلة، أداة أساسية في إرشاد الإجراءات السياساتية. ويقترح عدد متزايد من السيناريوهات العالمية التي تستخدم نماذج اقتصادية مسارات مقبلة تسير باتجاه تحويل النظم الزراعية والغذائية.4، 6، 28 ويمكن أن تساعد هذه السيناريوهات في التغلّب على الطابع المعقّد للتحوّل المطلوب والذي ينطوي على صكوك سياساتية وأوجه مقايضة متعددة وتفاعلية. غير أنّ السيناريوهات تتضمّن افتراضات متعددة ويمكنها فقط أن تتيح فهمًا عامًا للمسارات المحتملة لبلوغ النتائج المرجوة. وينبغي أن تُستكمل بعمليات تقييم على المستوى الوطني على أساس المشاورات مع أصحاب المصلحة لتحديد الأدوات الفعالة للتقدم باتجاه النتائج المرجوة. ومع ذلك، فإن عملية بناء السيناريوهات تُعتبر أداة سياساتية مفيدة.29
سيناريوهات لمعالجة التكاليف المستترة للنظم الغذائية والزراعية
يستخدم تقرير السياسة العالمية للجنة اقتصادات النظم الغذائية4 إطار عمل متكامل لوضع النماذج للمقارنة بين التكاليف المستترة للنظم الغذائية والزراعية في ظل المسارات الحالية والتكاليف في مسار التحوّل، بما في ذلك مجموعة الأدوات الأكثر شمولًا التي تم تصميمها حتى الآن (19 أداة مختارة) في إطار واحد أشمل.4، 30 ويخلص التقرير إلى أن مسار التحوّل العالمي لمعالجة هذه التكاليف المستترة المحدّدة كمّيًا ممكن وسيحقق فوائد صافية على مستوى العالم.
وتُظهر الآثار على التكاليف المستترة البيئية والاجتماعية والصحية أنّ مسار التحوّل الذي جرى تصميمه له القدرة على الحدّ من التكاليف المستترة العالمية بما لا يقل عن 5 تريليونات دولار أمريكي على أساس تكافؤ القوة الشرائية سنويًا لعام 2020. وتشير النتائج المفصّلة إلى أن التغيّرات في الأنماط الغذائية مسؤولة عن هذا التراجع بنسبة 70 في المائة على مستوى جميع الأبعاد – الآثار البيئية والاجتماعية والصحية – ما يؤكد مرة أخرى على أهمية ربط الآثار بشكل واضح بالمسارات التي تستدعي إجراء تدخلات (الإطار 3).
وتُقدّر الكلفة السنوية لتحويل النظم الزراعية والغذائية على مستوى العالم بما يتراوح بين 200 و500 مليار دولار سنويًا حتى عام 2050 .31 وبالمقارنة مع التكاليف المستترة العالمية المقدرة بأكثر من 10 تريليونات دولار في عام 2020، فإن هذا يترجم إلى فوائد عالمية صافية مهمة.
غير أنّ مسار التحوّل للجنة اقتصادات النظم الغذائية يعتمد على افتراضات جريئة حول جدوى تنفيذ أدوات تحويل النظم الزراعية والغذائية. ويتوفّر مثالان رئيسيان هما افتراضات نظام إعادة التوزيع العالمي لإعادة تخصيص الموارد المالية للبلدان والانتقال السلس إلى النظام الغذائي للجنة EAT–Lancet في كلّ مكان.32، 33 وبفعل غياب نظام عالمي لإعادة التوزيع، لن تتمكن البلدان المنخفضة الدخل من تحمّل التحوّل المتوخّى، حيث إن تكاليف شبكات الأمان الاجتماعي التي تشتد الحاجة إليها في هذه البلدان هي الأعلى بين جميع تكاليف التحوّل.4 علاوة على ذلك، وعلى الرغم من التحديات الغذائية والبيئية المرتبطة بنظام EAT–Lancet الغذائي، إلّا أنّ تحليل لجنة اقتصادات النظم الغذائية يفترض أن التحوّلات الغذائية السلسة خارجية المنشأ في من دون تقدير تكاليفها، نظرًا إلى صعوبة هيكلتها بسبب الإخفاقات الحالية في الأسواق وعلى صعيد المؤسسات والتوزيع.
وبالتالي، فإن نقطة البداية لكل بلد تتمثّل في منح الأولوية لالتزاماتها القائمة وتنفيذ الأدوات المتاحة ضمن حدود مجالاتها المالية والسياسية. ويمكن إرشاد هذه العملية باستخدام التكاليف المستترة وتصنيف النظم الزراعية والغذائية.
إعادة توظيف الدعم الحكومي للأغذية والزراعة
نظرًا إلى الضغوط على الميزانيات العامة وتعدّد الالتزامات الوطنية، فإنّ خيارات السياسات التي ليس لها أثر على الميزانية لتحويل النظم الزراعية والغذائية يمكن، من حيث المبدأ، أن تُعتبر "نتائج سريعة التحقق". وقد بلغ إجمالي الموارد العامة المخصصة للدعم الزراعي حوالي 630 مليار دولار أمريكي سنويًا في الفترة 2013–2018، حيث ارتفع إلى 817 مليار دولار أمريكي سنويًا في الفترة 2019–2021 .34، 35 ويجعل ذلك من إصلاح السياسات العامة المسؤولة عن هذا الإنفاق المهم أداة مهمة في الحوار بشأن التحوّل المستدام للنظم الزراعية والغذائية.3، 4، 36، 37 ويتفق مجمل الحوار حول إعادة التوظيف على أنه قد يكون فعالًا في البلدان التي تحظى حاليًا بقدر كبير من الدعم للزراعة، إلّا أنه محدود الاستخدام في البلدان التي تحصل على دعم يسير أو لا تحظى بالدعم إطلاقًا. ومع ذلك، فإنّ توليفة الأدلة المتوفّرة حول إعادة توظيف الدعم الزراعي لتحويل النظم الزراعية والغذائية يمكن أن تسلط الضوء على الفرص والتحديات أمام رسم المسارات المحتملة للحكومات التي قد ترغب في استخدام هذه الأداة.
وكما هو مبيّن في الشكل 9 فإنّ الحيز المالي المتاح لإعادة توظيف الدعم الزراعي الحالي محدود للغاية في معظم فئات النظم الزراعية والغذائية. وفي البلدان والأقاليم التي تنعم بموارد مالية كافية (والتي تأتي ضمن فئة النظم الزراعية والغذائية الصناعية والنظم التي هي في طور اكتساب طابع رسمي)، يمكن لإعادة توظيف الدعم الزراعي أن يقلّل من التكاليف الصحية والبيئية المستترة. ولكنّ الانخفاض الفوري سيكون محدودًا، حيث إن التغييرات السلوكية والتكنولوجية اللازمة للتخفيف من المخاطر الغذائية والآثار البيئية تستغرق وقتًا طويلًا، والمؤلّفات حول ما يؤتي ثمارًا وأسباب ذلك حديثة العهد وتبني البيّنات لتوجيه التصميم الناجع للسياسات.
ويلخص الجدول ألف 3 في الملحق 3 مجموعة مختارة من الدراسات البارزة التي بحثت في آثار إلغاء الدعم الزراعي أو إعادة توظيفه لمختلف أهداف تحويل النظم الزراعية والغذائية . وقد ساهم مطبوع لمنظمة الأغذية والزراعة وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة في زيادة بروز هذه الأداة المهمة في تحول النظم الزراعية والغذائية العالمية في معرض التحضير لعقد قمة الأمم المتحدة للنظم الغذائية.38 وتوثّق المطبوعة الآثار الإيجابية والسلبية المحتملة للدعم الزراعي، فضلًا عن أوجه المقايضة بين النتائج البيئية والاجتماعية والصحية التي قد يؤدي إليها إلغاء جميع أشكال الدعم على الصعيدين العالمي والإقليمي. ومن خلال إثبات الحاجة الحتمية إلى إعادة توجيه الموارد العامة الشحيحة نحو إنتاج واستهلاك مراعيين للطبيعة ومنخفضي الانبعاثات ومستدامين من الناحية البيئية، وضع التقرير هذه الأداة في صميم الحوار حول تحويل النظم الزراعية والغذائية. وتُعتبر دراسة Glauber وLaborde (2023)36 الدراسة الأكثر تفصيلًا التي تستكشف سيناريوهات إعادة التوظيف، بما في ذلك إعادة توجيه الإعانات المالية والدعم على الحدود للمستهلكين أو المنتجين أو كليهما. ومع أنّ هذه الدراسة لا تقيّم التكاليف المستترة، إلّا أنّها تشير إلى أنه من المتوقع أن تؤدي الإعانات المستهدفة بعناية والتي تحسّن القدرة على تحمّل تكاليف الأنماط الغذائية الصحية والإنصاف والنتائج المناخية، إلى خفض التكاليف الصحية المستترة بشكل ملحوظ، وكذلك إلى تغيير التكاليف البيئية والاجتماعية المستترة في إطار نهج حساب التكاليف الحقيقية. ويعدّ عدم التجانس بين المناطق وفئات النظم الزراعية والغذائية محتّمًا بسبب الاختلافات الكبيرة في القدرات المالية وتلك الخاصة بالحوكمة والتكنولوجيا، ما ينبغي أخذه في الاعتبار عند الانتقال من الرؤى العالمية إلى الإجراءات الوطنية.
يقيّم Springmann وFreund (2022)37 آثار إعادة توظيف الإعانات الزراعية نحو إنتاج مجموعات غذائية أكثر صحة واستدامة من حيث غازات الاحتباس الحراري والأمراض غير المعدية. وخلصت الدراسة إلى أن إصلاح الدعم الزراعي يمكن أن يؤدي إلى تحسينات في مجالات الصحة والبيئة والرفاه الاقتصادي، بالرغم من ضرورة إدارة أوجه المقايضة القائمة. علاوة على ذلك، يتوقّف السيناريو الذي يتيح تحقيق ذلك بأفضل شكل على وجود نظام تعويضات للبلدان التي لا تتمتع بإعانات كافية لضمان الإدماج العالمي. ولا تقيّم هذه الدراسة الآثار على المؤشرات الاجتماعية ولا تدمج كل الآثار التي تفضي إلى تكاليف مستترة لتسهيل المقارنة.
وفي حين لا يشمل مسار التحوّل للجنة اقتصادات النظم الغذائية المذكور أعلاه إعادة توظيف الدعم الزراعي، تستطلع وثيقة معلومات أساسية لهذا التقرير إمكانية إعادة توظيف وتخصيص الدعم للنظم الغذائية والزراعية على مستوى العالم.39 وتحقّق الدراسة في الآثار على الإنتاج، وكلفة النمط الغذائي الصحي، والفقر، والنقص التغذوي، والأسعار، وإجمالي الناتج المحلي، مع أنها لا تنظر في الآثار الصحية أو تحصي الآثار المترتبة عن التكاليف المستترة. وعلى غرار الدراسات الأخرى المذكورة أعلاه، تؤكد هذه الدراسة على أهمية توفير موارد مالية كافية لبلدان الجنوب لتمكين الابتكار ونقل التكنولوجيا واعتمادها خلال المرحلة الانتقالية.
يحسب 40(Lord (2022 آثار سيناريوهات الإلغاء على التكاليف المستترة للنظم الغذائية والزراعية.40 وتستطلع هذه الدراسة الأثر على التكاليف البيئية والاجتماعية المستترة بفعل إلغاء جميع أشكال الدعم الزراعي، وتخلص إلى أنّ هذا من شأنه أن يؤدي إلى زيادة التكاليف العالمية المستترة بحوالي 460 مليار دولار على أساس تكافؤ القوة الشرائية لعام 2020. غير أنّ هذه الدراسة لا تقيس الأثر على التكاليف الصحية المستترة بسبب نقص البيانات التي تربط التغيّرات في توافر الأغذية بالمتناول منها. ويعالج هذا الإصدار من حالة الأغذية والزراعة هذه الحلقة المفقودة في دراسة الحالة، من خلال ربط توافر الغذاء في بلد ما بالمخاطر الغذائية التي تؤدي إلى أمراض غير معدية التي توجّه معدّلات سنوات العمر المعدلة مراعاة لعامل العجز المستخدمة لتحديد التكاليف الصحية المستترة (انظر القسم التالي). ويمكن أن تستفيد الدراسات المستقبلية حول تحوّل النظم الزراعية والغذائية العالمية من الدمج بين هذا التوزيع المفصّل مع نهج حساب التكاليف الحقيقية لتقييم آثار مختلف الأدوات ومعالجة الفجوات المعرفية المتبقية.
ويعدّ توفير حوافز ضريبية للمستهلكين من شأنها أن تشجع على إجراء تغيّرات في الأنماط الغذائية نحو أغذية أكثر صحة ومنتجة على نحو أكثر استدامة، أداة مهمة وفعالة،41–43 لكنّ هذه الحوافز يمكن أن تكون خلافية من الناحية السياسية عند إضافتها كتدابير جديدة تزيد من العبء المالي.44–46 ويُعتبر بالتالي إصلاح النظام الضريبي الحالي لاستكمال إعادة توظيف الدعم الزراعي، من الأدوات الواعدة الأخرى التي لا يتوقّع أن تزيد من الأعباء الضريبية. ووجدت دراسة حديثة بشأن آثار إصلاح الآليات الحالية لضريبة القيمة المضافة في أوروبا – باعتبار أن ضريبة القيمة المضافة تمثّل أكثر من خمس الإيرادات العامة في الاتحاد الأوروبي47 – أنّ مواءمة معدلات الضريبة على القيمة المضافة مع الأهداف الصحية والبيئية يمكن أن تقلل من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري المرتبطة بالأغذية، وأن تحدّ من المخاطر الغذائية المرتبطة بالأمراض غير المعدية، وأن تزيد الإيرادات الضريبية، من دون المسّ غالبًا بكلفة السلة الغذائية الصحية.48 وترتبط التحسينات الصحية المبيّنة في النماذج (أي انخفاض معدل الوفيات وعبء الأمراض المنسوبة إلى عوامل الخطر المتصلة بالنظام الغذائي والوزن) بخفض معدلات الضريبة على القيمة المضافة على الفواكه والخضروات، في حين أن معظم الفوائد البيئية والمتعلّقة بالإيرادات تتأثّر بزيادة معدلات الضريبة على القيمة المضافة على اللحوم ومنتجات الألبان. ويمكن أن يكون لاستخدام الضرائب بطريقة لا تميّز بين من يتحمّل التكاليف ارتدادات بشكل محتّم (أي أن يكون له أثر غير متناسب على المستهلكين الأفقر)؛49، 50 لذلك، ينبغي أن تدمج حزم السياسات، بما فيها الأدوات من هذا النوع، بين الضرائب والبرامج الأخرى المتعلقة بالصحة لتحاشي الآثار غير المتناسبة على الأسر ذات الدخل المنخفض والأطفال.51
وتتضمن تحاليل السيناريوهات الموجزة أعلاه، بحكم تعريفها، افتراضات متعددة حول الطريقة التي يتم وفقها وضع السياسات وتنفيذها وتكييفها وحول كيفية الوصول إلى الآثار. وحتى لو اعتُبر السيناريو مربحًا للجانبين في مثل هذه النماذج، فقد لا يتم تنفيذه بسبب قيود متعددة على الاقتصاد السياسي. لذلك، لا بدّ من اكتساب فهم أعمق للأسباب التي تجعل السياسات غير قابلة للتنفيذ أو عرضة للمقاومة من أجل تقييم خيارات الإصلاح وجدواها السياسية.52 ويجب تقييم أوجه المقايضة والتآزر الناتجة عن السيناريوهات المتعددة التي تم قياسها باستخدام حساب التكاليف الحقيقية مع الأخذ بعوامل الاقتصاد السياسي المتغيّرة ذات الصلة.53 ومن شأن هذا النهج أن يؤكّد مجددًا على أهمية التعاون الدولي والقواعد الشعبية عبر الوطنية في تنفيذ سيناريوهات إعادة التوظيف والمبادرات التكميلية المطلوبة لتحقيق تحوّل عالمي شامل.52