توفر لنا النظم الزراعية والغذائية العالمية الغذاء وتدعم سبل عيش الكثيرين. ولكن، تمرّ هذه النظم بأوقات حرجة حيث إنها تواجه تحديات غير مسبوقة تتطلب حلولًا مبتكرة وإجراءات جماعية. ويبني إصدار عام 2024 من تقرير حالة الأغذية والزراعة على العمل الرائد الذي أنجزه الإصدار السابق، ويتعمّق أكثر في مسألة التكاليف المستترة لنظمنا الزراعية والغذائية، ويمهد الطريق لإحداث تغيير تحويلي.
ولقد أشرنا في عام 2023 إلى أن قيمة التكاليف المستترة العالمية للنظم الزراعية والغذائية تجاوزت 10 ترليونات دولار أمريكي على أساس تكافؤ القوة الشرائية لعام 2020. أما هذه السنة، فنعمّق فهمنا لهذه التكاليف، ولا سيما في مجال الصحة، ونستكشف الطريقة التي تتجلى فيها في مختلف أنواع النظم الزراعية والغذائية حول العالم. وتؤكد النتائج التي توصلنا إليها على الحاجة الملحّة إلى اتخاذ الإجراءات. فمن عبء الأمراض غير المعدية في النظم الزراعية والغذائية الصناعية وذات الطابع الرسمي وصولًا إلى التحديات المستمرة التي يطرحها النقص التغذوي في النظم الزراعية والغذائية التقليدية، تؤثر التكاليف المستترة لنظمنا الزراعية والغذائية في كل ركن من أركان العالم.
وإن النظم الزراعية والغذائية التي تستخدم حوالي 1.23 مليار شخص في العالم، شديدة الترابط ومع ذلك لا تتشارك الجهات الفاعلة كافة بشكل متساوٍ في تحمّل عبء التكاليف المستترة وتحقيق التحوّل اللازم. وبالرغم من الدور الحاسم الذي تؤديه النظم الزراعية والغذائية في توفير العمالة، فإنها لا تضمن دائمًا مستوى معيشيًا مقبولًا وحياة جيدة. وغالبًا ما يتحمّل السكان الضعفاء، بما في ذلك الفقراء، والأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي، وصغار الجهات الفاعلة في سلسلة القيمة، والنساء، والشباب، والأشخاص ذوي الإعاقة، والشعوب الأصلية، الجزء الأكبر من التكاليف المستترة الاجتماعية لهذه النظم. كما أن عدم المساواة والاختلال في توازن القوة متجذران بعمق في نظمنا الزراعية والغذائية.
وتتطلب مواجهة هذه التحديات حلولًا مصمَّمة خصيصًا لتناسب مختلف النظم الزراعية والغذائية. ويكشف التصنيف المبتكر للنظم الزراعية والغذائية المعتمد في هذا التقرير عن أن النظم المختلفة تواجه تحديات فريدة وتتطلب تدخلات محددة الأهداف. ومن الضروري معالجة العبء المزدوج لسوء التغذية في النظم الزراعية والغذائية التي تمرّ بمرحلة انتقالية والتصدي للتكاليف المستترة الصحية والبيئية الناشئة عن النظم الزراعية والغذائية الصناعية من خلال استراتيجيات خاصة بكل سياق. وتتميّز النظم الزراعية والغذائية في البلدان والأقاليم التي تشهد أزمات طويلة الأمد بعبء تكاليفها المستترة البيئية والاجتماعية الكبير، الأمر الذي يؤكد على أهمية دمج الحلول الطويلة الأجل في استراتيجيات الخروج و/أو الاستجابة للأزمات.
ولا يمكن التقليل من أهمية حساب التكاليف الحقيقية ومشاركة أصحاب المصلحة. فبتطبيق حساب التكاليف الحقيقية وتشجيع الحوار الشامل لجميع أصحاب المصلحة، يمكننا أن نحدد الأدوات المساعدة الفعالة لخفض التكاليف المستترة وإقامة نظم زراعية وغذائية أكثر كفاءة وشمولًا وقدرة على الصمود واستدامة وصحة. ومن شأن هذا النهج أن يمكّننا من صنع قرارات مستنيرة تعود بالمنفعة على الناس والكوكب على السواء.
ويتطلب تحويل نظمنا الزراعية والغذائية أيضًا تعاونًا غير مسبوق بين واضعي السياسات، والمنتجين، والمستهلكين، والمؤسسات المالية. ويتحمّل المنتجون الذين هم أوّل من يتأثر بآثار أزمة المناخ، جزءًا كبيرًا من العبء ويواجهون في الوقت نفسه تحديات في اعتماد الممارسات المستدامة. ويجب وضع آليات للتخفيف من الأعباء المالية والإدارية التي يتحمّلونها، الأمر الذي يحفّز بالتالي التغيير التحويلي. وهناك حاجة إلى ضمان أن تكون المنافع والتكاليف التي ينطوي عليها التغيير موزّعة بشكل متساوٍ بين أصحاب المصلحة في سلسلة القيمة الزراعية والغذائية.
وسيكون للأعمال التجارية والمستثمرين دور مهم يؤدونه. فتتراوح الأعمال التجارية الزراعية بين المؤسسات المتناهية الصغر والصغيرة والشركات العالمية، ويمكن لتأثيرها أن يشكل قوة دافعة لاعتماد الممارسات المستدامة في سلاسل الإمدادات. وتشكل مطالبة المستهلكين بممارسات إنتاج صحية ومستدامة وعادلة، دافعًا رئيسيًا من دوافع التغيير. وبالمثل، ينبغي على الأوساط الاستثمارية أن تدمج المسؤولية البيئية والاجتماعية في عملياتها مع الاعتراف بأن "سير الأمور على النحو المعتاد يشكل طرحًا شديد الخطورة" في ظل تغيّر المناخ.
ويمكن للمستهلكين الذين يشكلون أكبر مجموعة من الجهات الفاعلة في النظم الزراعية والغذائية في العالم، أن يحدثوا
تغييرًا تحويليًا من خلال قراراتهم الشرائية. وتُعد التحوّلات في الأنماط الغذائية لمعالجة الاستهلاك المنخفض للفاكهة والحبوب الكاملة والاستهلاك المفرط للصوديوم، أساسية في جميع فئات النظم الزراعية والغذائية بينما يشكل الاستهلاك المفرط للحوم المجهّزة والحمراء مسألة مهمة بشكل خاص في النظم الزراعية والغذائية الصناعية. ولا يؤدي التصدي لهذه المخاطر الغذائية إلى معالجة التكاليف المستترة الصحية فحسب، ولكن أيضًا جزءًا كبيرًا من التكاليف البيئية من خلال تغيير استخدام الأراضي والمدخلات بالاستناد إلى أوجه الاعتماد المبيّنة في هذا التقرير. وتشير الأدلة المتراكمة إلى أنه يمكن للتدخلات التي تبني صفة الفاعل للمستهلكين وتساهم في تشكيل أذواقهم وممارساتهم الشرائية، أن تحفّز التغيير في سلاسل الإمدادات الغذائية، الأمر الذي يعزز الاستدامة والصحة.
وتوفر هذه الأفكار الثاقبة دليلًا استراتيجيًا للعمل مع التأكيد على الحاجة الملحة إلى إحداث تغيير تحويلي في النظم الزراعية والغذائية العالمية. ويُعد تحويل نظمنا الزراعية والغذائية أمرًا أساسيًا لتحقيق أهداف التنمية المستدامة وضمان مستقبل مزدهر للجميع. ويتطلب ذلك أن نقوم بسد الفجوات القطاعية، ومواءمة السياسات المتعلّقة بالصحة والزراعة والبيئة، وضمان توزيع منافع التغيير وتكاليفه بشكل متساوٍ، بما في ذلك بين الأجيال.
ونحن نمضي قدمًا، لا يجب أن يغيب عن بالنا أن التغيير الفعلي يبدأ بالأفعال والمبادرات الفردية. فشروع المزارعين أصحاب الحيازات الصغيرة إلى اعتماد الممارسات المستدامة، أو اتحاد المجتمع المحلي لدعم توليد القيمة في النظم الزراعية والغذائية المحلية، أو اختيار المستهلكين منتجات التجارة العادلة التي تم إنتاجها بطريقة مستدامة – هي جميعها أفعال تساهم في تحقيق الهدف الأسمى. ويجب تحفيز هذه الأفعال الفردية من خلال السياسات المشجّعة والاستثمارات المحددة الأهداف. ولكل واحد منا دور يؤديه، ويمكن لجهودنا الجماعية أن تشكل قوة دافعة للتحوّل اللازم من أجل بناء مستقبل أفضل من خلال الأفضليات الأربع: أي إنتاج أفضل، وتغذية أفضل، وبيئة أفضل، وحياة أفضل – من دون ترك أي أحد خلف الركب. ولنستلهم من قصص الأشخاص الذين يصنعون الفرق بالفعل ولنتعاون لقيادة حركة عالمية من أجل نظم زراعية وغذائية مستدامة وشاملة.
وسيكون الطريق أمامنا مليئًا بالصعوبات، ولكن المكاسب التي يمكن تحقيقها ضخمة. وبتبني الأفكار الثاقبة والتوصيات الواردة في هذا التقرير، يمكننا أن نبني نظمًا زراعية وغذائية تغذّي الناس والكوكب اليوم وفي المستقبل. ولقد آن الأوان للتحرّك، والطريق إلى الأمام واضح. فلنغتنم هذه الفرصة لتحويل نظمنا الزراعية والغذائية وبناء عالم أكثر استدامة وصحة وشمولًا للجميع.

شو دونيو
المدير العام لمنظمة الأغذية والزراعة