حالة الأغذية والزراعة 2024

الفصل 5 تخطي التحديات الماثلة أمام تحديد الأولويات على مستوى السياسات والاستثمارات من أجل تحويل النظم الزراعية والغذائية على مستوى العالم

السياسة العامة من أجل السلع العامة

استحوذت النتائج الأولية لعمليات تقييم حساب التكاليف الحقيقية الخاصة بالبلدان البالغ عددها 154 بلدًا التي جرى نشرها في تقرير حالة الأغذية والزراعة 2023 على اهتمام الكثير من الحكومات. وتنقح طبعة عام 2024 من التقرير تلك التقديرات الأولية، وتؤكد بدرجة عالية من اليقين على أنها تتجاوز 10 تريليونات دولار أمريكي وتوفر تقييمًا أكثر تفصيلًا لنقاط الدخول على مستوى السياسات تستفيد منها الحكومات في كل مكان. ومع أنّ حساب التكاليف الحقيقية يجري استخدامه بصورة متزايدة على نطاق أضيق من أجل الجمع بين أصحاب المصلحة في سلاسل قيمة معينة، إلّا أنّ تطبيقاته على المستوى الوطني لا تزال محدودة.

وتستخدم الحكومات في كل مكان أدوات مختلفة على مستوى السياسات (مثل تحليل الكلفة والمنافع أو تقييم دورة الحياة أو ما شابه ذلك) بغية تقييم فعالية التدخلات المختلفة في توجيه عملية صنع القرار. ويمكن أن يدعم حساب التكاليف الحقيقية العمليات الإدارية المتعلقة بإنشاء حوافز السياسات (الإيجابية والسلبية) التي توجه جميع أصحاب المصلحة (صغار المزارعين والمستهلكين والشركات الخاصة المتعددة الجنسيات والوزارات) ضمن نهج قائم على النظم. وعلى وجه الخصوص، يمكنها أن تكفل، قدر الإمكان، إيجاد حلول للاختلالات والمسائل المتعلقة بالتوزيع بمجرد الانتهاء من تقييم العوامل الخارجية وتكشّف الكلفة الحقيقية للإجراءات المتنوعة لصانعي السياسات (الإطار 30).7

الإطار  30توجيهات للحكومات الوطنية بشأن حساب التكاليف الحقيقية

قد تؤدي كلفة أوجه التكافل في النظم الزراعية والغذائية والتعقيد الذي تتسم به، وهما أمران يسعى حساب التكاليف الحقيقية إلى توثيقهما، إلى تثبيط همة الحكومات الوطنية. بيد أنّ مبادئ حساب التكاليف الحقيقية لا تختلف بشكل كبير عن تحليل الكلفة والمنافع، وهو أداة تستخدمها حكومات عديدة في صنع قراراتها. وبالرغم من وجود تباينات في نطاق تحليل الكلفة والمنافع وحساب التكاليف الحقيقية (على سبيل المثال، نادرًا ما يتناول تحليل الكلفة والمنافع رؤوس الأموال الأربعة جميعها)، إلّا أنهما يتشاركان بمنهجيات وأهداف متشابهة، وكلاهما يسعى إلى قياس القيمة المجتمعية. وتمتد هذه العلاقة لتشمل أطرًا أخرى تعمل على تقييم القيم الاجتماعية غير المتعلقة بالسوق، مثل عمليات تقييم دورة الحياة، ومؤشرات آثار البيئة والمجتمع والحوكمة، وأطر الإبلاغ عن أهداف التنمية المستدامة. وقد قوبلت عمليات تقييم دورة الحياة في البداية بتردد مماثل لدى واضعي القواعد بسبب اعتقادهم بأنها معقدة، لكنّ استخدامها أصبح أكثر انتشارًا مع مرور الوقت بعد أن زاد توفر تقييمات دورة الحياة والأدوات وقواعد البيانات المنسقة. ومن شأن دمج حساب التكاليف الحقيقية في عمليات السياسات وصنع القرار أن ينشئ نهجًا موحدًا ومبسطًا، ما يحسّن اتساق هذه الجهود.

ويحدد تقرير حالة الأغذية والزراعة 2023 عملية سياساتية تستخدم حساب التكاليف الحقيقية لتحديد الأولويات على مستوى السياسات وتحليل الكلفة والمنافع لاختيار أفضل البدائل من أجل تحويل النظم الزراعية والغذائية. ويستخدم هذا النهج التفكير القائم على النظم من أجل تقييم المقايضات وأوجه التآزر، ومعالجة التناقضات المحتملة الناجمة عن تشتت السياسة العامة عبر إدارات مختلفة ذات أهداف متضاربة. كما أنها تؤكد على مشاركة أصحاب المصلحة، ما يعزز شفافية السياسات وتنقيحها من خلال إرساء التوازن بين المصالح وحشد الدعم من مختلف أصحاب المصلحة.

ويمكن تنفيذ هذا الإطار السياسي بسهولة من قبل الحكومات التي تعمل حاليًا على استخدام تقييم الكلفة والمنافع وإشراك أصحاب المصلحة في عمليات رسم السياسات لديها. وسيدرك صانعو السياسات الذين يركزون على التحوّل المنافع العائدة على اعتماد نهج قائم على حساب التكاليف الحقيقية، الذي يوحد الجهود السابقة ويعزز اتساق المبادرات القائمة. وإنّ إمكانية تحسين نتائج السياسات والقيمة الكبيرة الناشئة عن تحويل النظم الزراعية والغذائية ستشجعهم على تجاوز التحديات بصورة واقعية، مثل ندرة البيانات، وتحسين عمليات صنع القرار بشكل مستمر، بما يتماشى مع مبادئ حساب التكاليف الحقيقية.

المصدر: Merrigan, K.A., El-Hage Scialabba, N., Mueller, A., Jablonski, B.B.R., Bellon, M., Riemer, O. & Palmieri, S. (سيصدُر قريبًا). How and when to use true cost accounting: Guidance for national governments – Background Paper for The State of Food and Agriculture 2024. Rome, FAO

يورد هذا التقرير تقييم حساب التكاليف الحقيقية الذي أجري على المستوى الوطني في سويسرا وكان جزءًا من عملية سياساتية. وهو يبرز التحديات والفرص المتاحة على حد سواء. وقد يسّر إجراء تلك الدراسة إلى حد كبير كونها جزء من عملية جارية متعددة أصحاب المصلحة تهدف إلى تكوين رؤية للنظم الزراعية والغذائية الوطنية. وقامت الدراسة بإقرار الأعداد الوطنية الواردة في تقرير حالة الأغذية والزراعة 2023 بوصفها نقطة انطلاق جيدة لعمليات التقييم المحددة الأهداف، كما وسّعت نطاق تلك الأعداد وأدرجت مكونات جديدة باستخدام مصادر بيانات وطنية ذات صلة. وأحد الدروس العملية الرئيسية المستفادة هو أنه بالرغم من أهمية جودة البيانات، إلّا أنّ اتباع نهج عملي في حساب التكاليف الحقيقية يمكن أن يسهّل مشاركة مثمرة من جانب أصحاب المصلحة وأن يساعد في تحديد المجالات التي فشلت فيها القرارات السابقة في إجراء حساب كامل لتكاليفها المستترة. كما تؤكد هذه الدراسة على دور عمليات التقييم المحددة الأهداف لحساب التكاليف الحقيقية في تصحيح مسار العمل، حيث استنتجت أنّ "تحديد الأولويات" لا يعني بالضرورة اتخاذ إجراءات بشأن أكبر مكونات الكلفة المستترة، بل إنه يشمل الاستثمار في إجراءات وقائية تمنع التكاليف المستترة الضئيلة حاليًا من أن تصبح كبيرة جدًا في المستقبل بحيث يصعب التعامل معها – على سبيل المثال، مقاومة مضادات الميكروبات في سويسرا.

ومن جهة أخرى، فإنّ الكشف عن صعوبات معالجة التكاليف المستترة المرتفعة قد يمكّن صانعي القرار من إسناد الأولوية للتكاليف المستترة التي يسهل الحد منها بشكل أكبر من خلال السياسات في ظل الهياكل المؤسسية القائمة. وفي هذا السياق، تشدد الدراسة على أهمية إمعان النظر في السياسات الزراعية المعمول بها، بما في ذلك الأنظمة والإعانات، من أجل إعادة ضبط هياكل الحوافز.12 وتسلّط هذه الطبعة من تقرير حالة الأغذية والزراعة الضوء على نُهج عملية مماثلة باعتبارها "ثمرة في المتناول" من المحتمل الاستفادة منها، مثل إصلاح الدعم الزراعي الحالي أو ضريبة القيمة المضافة على المنتجات الزراعية والغذائية من دون الحاجة إلى تمويل حكومي إضافي. بيد أنّ هذه السياسات العملية قد تنشئ تكاليف اجتماعية مستترة في حال أثرت بصورة غير متكافئة على بعض الفئات الفرعية من السكان وستستدعي إرفاقها بتدابير مناسبة.

وإنّ رسم معالم السياسات الحكومية بحيث تحقق أهدافًا متعددة تؤثر على عدد متزايد من أصحاب المصلحة على مدى الأجيال هو أمر يسهل قوله ويصعب فعله – كما يتضح من العمود الأخير في الجدول 3 الذي يتضمن قائمة طويلة من الأدوات المساعدة الممكنة. وفي الوقت نفسه، تُعدّ التدخلات الحكومية أساسية لتحويل النظم الزراعية والغذائية المستدامة، فمن دونها ستكون الأسواق "محجوبة عن الاستدامة"12 وسيبقى العمل الطوعي غير كافٍ. وبالتالي، تتخذ الحكومات العديد من القرارات بالإستناد إلى معلومات منقوصة من أجل الوفاء بالتزاماتها الوطنية في ظل هياكل النظم الزراعية والغذائية القائمة.

وفي النظم الزراعية والغذائية الصناعية – حيث يكون الإنتاج الأولي كثيف المدخلات، وسلاسل القيمة طويلة، والتوسّع الحضري في أوجه، والأنماط الغذائية غير الصحية تسبب أعلى التكاليف المستترة – يمكن إسناد الأولوية للتدخلات الرامية إلى معالجة الأنماط الغذائية غير الصحية، وبالتالي الحد من جزء كبير من التكاليف البيئية المستترة. وإنّ ترقية الخطوط التوجيهية التغذوية المستندة إلى الأغذية وتحويلها إلى نهج قائم على النظم الزراعية والغذائية، والإلزام بتوسيم العناصر المغذّية وإصدار الشهادات، وحملات نشر المعلومات المتعلقة بالآثار الصحية والبيئية (بما في ذلك الإعلانات والأنظمة الخاصة بالشفافية ومعايير الإبلاغ) هي جميعها عناصر مساعدة فعالة. ولكن بما أنّ تنفيذ السياسات التي تركز على الصحة والتي تهدف إلى تغيير السلوك الاستهلاكي قد يستغرق وقتًا طويلاً، لا يمكن تطبيق هذا العامل المساعد على حساب الإجراءات الرامية إلى معالجة التكاليف البيئية المستترة في الوقت الحاضر. ويمكن أن يساعد حساب التكاليف الحقيقية على تحليل القيمة الناشئة عن التدخلات المتعددة.

وفي النظم الزراعية والغذائية التقليدية – حيث يكون الإنتاج الأولي غير فعال، وسلاسل القيمة أقصر، والتوسّع الحضري منخفضًا، والفقر والنقص التغذوي يسببان أعلى التكاليف المستترة – سيظل التحوّل الريفي الشامل أولوية، بما في ذلك شبكات الأمان الاجتماعي بوصفها عناصر مساعدة متكاملة على مستوى السياسات تكفل الأمن الغذائي والتغذية للفئات الأضعف. وفي الوقت نفسه، يكون العبء المزدوج الذي يسببه سوء التغذية هو الأكبر في هذه النظم الزراعية والغذائية، ما يشير إلى ضرورة إرفاق التدخلات التقليدية المعزّزة للإنتاجية بعناصر مساعدة بيئية وغذائية منذ البداية من أجل تجنّب الزيادة في البصمة البيئية وتعاظم التكاليف الصحية التي لوحظت عبر التاريخ أثناء الانتقالات في النظم الزراعية والغذائية.

وينبغي أن تقوم النظم الزراعية والغذائية الانتقالية (الفئات الآخذة في التوسع والآخذة في التنوع وذات الطابع الرسمي)، حيث يتزايد التوسّع الحضري وتطول سلاسل القيمة الغذائية مع ارتفاع التكاليف الصحية المستترة، بالاستثمار في إعادة تصميم عملية تطوير سلسلة القيمة الغذائية من أجل تحويل مسار العمليات الانتقالية التغذوية، وإلى "تجاوز" بعض الاتجاهات التاريخية في الأنماط الغذائية وتجنّب أخطاء النظم الزراعية والغذائية الصناعية.13

وبصرف النظر عن سياق النظم الزراعية والغذائية، هناك أدلة متزايدة على فعالية حزم التدخلات، لا سيما في الحالات التي تؤدي فيها الاختلالات في التوزيع إلى مقايضات بين مختلف مجموعات أصحاب المصلحة.14، 15 ومع أنّ معظم الأدلة الموجودة تركز على قطاع الطاقة، إلّا أنّ الاستراتيجيات الفعالة التي حددها هذا المطبوع يمكن أن توجه عملية صنع السياسات المتعلقة بالنظم الزراعية والغذائية. وعلى سبيل المثال، سيزيد احتمال دعم المزارعين لسياسة تنظم استخدام النيتروجين إذا كانت مقترنة مع سياسات تتطلب من الأعمال التجارية الزراعية والمؤسسات المالية أن تعامل المزارعين الممتثلين بأسلوب تفضيلي. وإذا كان من المحتمل أن تؤثر حزمة السياسات على الفئات السكانية الضعيفة بشكل غير متكافئ، فمن المرجح أن يؤدي الجمع بينها وبين تدابير التعويض إلى زيادة الدعم السياسي. وثمة قدر متزايد من الأدلة المشجعة على فعالية مزيج السياسات الذي يجمع بين الحوافز الاقتصادية والسلوكية التقليدية؛14 ومن الضروري إجراء المزيد من البحوث بهدف توسيع نطاق هذه الأدلة لكي تشمل النظم الزراعية والغذائية التقليدية والانتقالية.

ولا تزال وزارات الصحة غائبة إلى حد كبير عن المداولات الحالية المتعلقة بمشاركة أصحاب المصلحة اللازمة لتحويل النظم الزراعية والغذائية. وبالرغم من أنّ بعض وزارات الصحة أدت دورًا محوريًا في وضع سياسات وجيهة تستهدف أنماط الاستهلاك الغذائي غير الصحي في أمريكا اللاتينية؛ إلّا أنّ هذه المبادرات لم تكن في الغالب مرتبطة بسياسات النظم الزراعية والغذائية الأوسع نطاقًا. وإنّ إشراك وزارات الصحة هو خطوة مقبلة مهمة على جدول أعمال تحويل النظم الزراعية والغذائية العالمية، فحتى في الأماكن التي لا تزال فيها التكاليف الصحية المستترة منخفضة نسبيًا، يمكن أن تكفل مشاركة تلك الوزارات أن تكون سلاسل القيمة الغذائية وشبكات الأمان الاجتماعي مصمَّمة للقضاء على المشكلة في مهدها، أو لتجنب الذروة التاريخية في الأنماط الغذائية غير الصحية التي لوحظت خلالالعمليات الاتقالية التي شهدتها النظم الزراعية والغذائية.

وفي جنوب أفريقيا، جرى استعراض أدوار المجموعات المختلفة (على سبيل المثال، التحالفات المعنية بالنمو الاقتصادي والأمن الغذائي والإنتاج الزراعي والصحة) في عملية تصميم حزم السياسات الخاصة بالأمن الغذائي والتغذية.16 وبينما كان التحالف المعني بالنمو الاقتصادي صاحب التأثير الأكبر، فقد كان التحالف المعني بالصحة صاحب التأثير الأقل، بالرغم من التكاليف الصحية المستترة الكبيرة الناجمة عن النظم الزراعية والغذائية في هذا البلد (نسبة تقارب 9 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي). وما هذا إلّا مثال واحد فقط على الغياب الصارخ لوزارات الصحة عن المداولات العالمية المتعلقة باستنهاض الهمم من أجل تحقيق أهداف تحويل النظم الزراعية والغذائية. ونادرًا ما تتبع مداولات السياسات الصحية بحد ذاتها نهج النظم الزراعية والغذائية، ما يُبرز الحاجة إلى بذل الجهود من أجل سدّ الفجوة في كلا الجانبين.17

back to top