حالة الأغذية والزراعة 2024

الفصل 5 تخطي التحديات الماثلة أمام تحديد الأولويات على مستوى السياسات والاستثمارات من أجل تحويل النظم الزراعية والغذائية على مستوى العالم

تمويل التحويل المحلي والعالمي

بات من الواضح الآن أنه من الضروري زيادة التدفقات المالية الموجهة نحو النظم الزراعية والغذائية من أجل تسديد نفقات التحوّل اللازم. ويسرد تقرير حالة الأمن الغذائي والتغذية في العالم 2024 التكاليف الناجمة عن عدم سدّ الفجوة في التمويل، بما في ذلك معاناة ملايين الأشخاص من الجوع وانعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية وعدم قدرتهم على تحمّل كلفة نمط غذائي صحي، مع ما يترتب عن ذلك من تداعيات اجتماعية واقتصادية وصحية ما بعد عام 2030 .18 كما أنّ العديد من المبادرات الواعدة التي ينفذها قطاع التمويل تدمج بشكل متزايد المسؤولية البيئية والاجتماعية في عملياتها (على نحو ما ورد في الفصل 3). غير أنّ توسيع نطاق تلك المبادرات بصورة كافية من أجل تحقيق تحويل النظم الزراعية والغذائية العالمية يبدو مكبلًا "بقيود خفية". وتشمل تلك القيود التجزئة التي تشوب البنية الحالية لتمويل الأمن الغذائي والتغذية وغياب التنسيق بين الجهات الفاعلة المحلية والعالمية،18 ويعزى ذلك بصورة جزئية إلى انعزال الجهات المسبّبة للكلفة المستترة عن الجهات التي تتحمّلها وإلى المقايضات بين الأهداف المتعددة الخاصة بتحويل النظم الزراعية والغذائية.

وسيكون من المجدي تنفيذ بعض الأدوات المساعدة التي ورد ذكرها في هذا التقرير من خلال الميزانيات الوطنية، ولكن يجب أن تترافق بتدفقات مالية من القطاع الخاص وعلى المستوى الدولي من أجل وضع النظم الزراعية والغذائية العالمية على مسار التحوّل المستدام.18، 19 ويمكن تحديد الميزانيات التي يجب أن يقع عليها عبء تمويل الإجراءات المطلوبة (الميزانيات الوطنية أو الدولية) باستخدام نهج حساب التكاليف الحقيقية الذي يوثّق الفاصل المكاني والزماني بين الجهات المستفيدة من الوضع الراهن والجهات المتحمّلة للتكاليف المستترة. ويمكن أن يساعد ذلك على توسيع نطاق المبادرات الناجحة، مثل التمويل القائم على النتائج الذي أمكن الحصول عليه من خلال المبادرة المعززة لخفض الانبعاثات الناجمة عن إزالة الغابات وتدهورها في البلدان النامية (المبادرة – REDD+) في إكوادور وغانا، والمشار إليه في الإطار 31. ومن المقدّر أن تكون الكلفة العالمية للتحوّل ضمن المقدرة المالية العالمية؛ لكن نظرًا إلى توزيعها غير المتساوي إلى حد كبير بين البلدان، قد يكون التمويل أمرًا لا بدّ منه. لا سيما البلدان المتأثرة بأسباب متعددة لانعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية والظواهر المناخية المتطرفة والصراعات، التي تعاني من محدودية فرص الحصول على التمويل، الأمر الذي يستدعي إقامة شراكات تمويل مبتكرة وتعاونية بغية ضمان الانتقال العادل.18

الإطار  31خفض الانبعاثات الناجمة عن إزالة الغابات وتدهورها — الحدّ من التكاليف المستترة من خلال تمويل الممارسات المستدامة المجدية من الناحية الاقتصادية

يتسم برنامج المبادرة المعززة لخفض الانبعاثات الناجمة عن إزالة الغابات وتدهورها في البلدان النامية (المبادرة – REDD+)* بأنه وثيق الصلة باتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغيّر المناخ ويساعد على معالجة التكاليف المستترة الناجمة عن النظم الزراعة والغذائية.20 وهو يشجع على إحداث نقلة نوعية في استخدام الأراضي، نحو اتباع ممارسات مستدامة تضمن حماية الغابات وتعزيز سبل العيش وتحقيق التنمية المستدامة. وحين تحقق البلدان أو الولايات دون الوطنية خفض الانبعاثات وتفي بمتطلبات المعايير، يمكنها عندها الحصول على مبالغ مالية مرهونة بالنتائج، حيث سينبغي عليها إعادة استثمارها في تنفيذ المزيد من الإجراءات الرامية إلى الحد من إزالة الغابات، ما يساهم في تحقيق المساهمات المحددة وطنيًا لكل بلد. وقد وصلت تلك المبالغ إلى ما يقرب من ثلث بلدان الغابات الاستوائية التي تبذل جهودًا للحصول على التمويل المرهون بالنتائج في إطار المبادرة. ويوظف بعض هذه البلدان مبالغ العائدات لتمويل تدخلات مباشرة في نماذج الإنتاج الزراعي المستدام، ما يعزز استمرار دورة حميدة في استخدام الأراضي والتنمية المستدامة.

وأحد الأمثلة الملموسة على تطبيق المبادرة في غانا من أجل دعم التحوّل إلى سلسلة إمدادات زراعية مستدامة هو برنامج غانا لخفض الانبعاثات الناجمة عن إزالة الغابات وتدهورها في غابات الكاكاو (برنامج غانا). فقد أدت زراعة الكاكاو، الأساسية بالنسبة إلى اقتصاد غانا، إلى وضع ضغوط على الغابات. وتعمل غانا، عن طريق هذا البرنامج، على الحد من انبعاثات الكربون الناجمة عن التوسّع في زراعة الكاكاو والأنشطة الزراعية الأخرى من خلال تعزيز نظام إنتاج الكاكاو الذكي مناخيًا وإنشاء إدارة للمناظر الطبيعية تركز على الزراعة المستدامة وحماية الغابات والحوكمة المجتمعية والتعاون بين أصحاب المصلحة المتعددين. كما أنّ برنامج غانا يدعم أيضًا محاصيل أشجار أخرى وسبل العيش القائمة على الطبيعة ضمن مناطق التدخل الساخنة في غابات الكاكاو. وفي عام 2023، حصلت غانا على 4.8 ملايين دولار أمريكي من البنك الدولي لقاء خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بمقدار 000 972 طن، حيث وصلت نسبة 69 في المائة من المبلغ مباشرة إلى مزارعي الكاكاو. علاوة على ذلك، يدرك القطاع الخاص أنّ المبادرة هي آلية إيجابية ووسيلة تكفل تحقيق أهدافه في مجال الإمدادات الزراعية المستدامة.

ومن الأمثلة الملهمة الأخرى مبادرة PROAmazonía المنفذة في إكوادور التي تقودها وزارة البيئة والمياه ووزارة الزراعة والثروة الحيوانية. وقد نجحت في وضع سياسات واستراتيجيات من أجل حفظ الموارد الطبيعية وإنتاج السلع الأساسية على نحو مستدام من خلال الإدارة الفعالة والمساواة بين الجنسين والتواصل الفعال بين أصحاب المصلحة. وقامت مبادرة PROAmazonía بتدريب الفنيين المحليين وقادة المجتمعات المحلية وأصحاب الأراضي على إدارة الغابات والمنتجات الحرجية غير الخشبية، وعززت النظام الوطني لرصد الغابات، ونفذت خططًا مجتمعية وأخرى للإدارة الوقائية للغابات. وقد حوّلت مساحات كبيرة نحو الإنتاج المستدام، وحافظت على مساحات شاسعة من الغابات، وقامت بإصلاح هكتارات عديدة من الأراضي، واستفاد منها أكثر من 000 80 شخص.

ملاحظة: * إنّ نطاق المبادرة المعززة يتخطى إزالة الغابات وتدهورها في البلدان النامية، ويشمل دور الصون والإدارة المستدامة للغابات وتعزيز مخزونات الكربون في الغابات. المصدر: FAO. 2022. Halting deforestation from agricultural value chains: the role of governments. Rome. https://doi.org/10.4060/cc2262en

ومع ذلك، يمكن إنجاز الكثير من العمل ضمن الحدود والميزانيات الوطنية متى وُجدت إرادة سياسية لجمع أصحاب المصلحة كافة في بوتقة واحدة من أجل اتخاذ خطوات تدريجية، مثل إعادة توجيه الدعم الزراعي، وإصلاح النظم الضريبية، ووضع معايير الإبلاغ للمستثمرين من القطاع الخاص والأعمال التجارية الزراعية، وتحفيز المستهلكين على الانتقال إلى أنماط غذائية صحية ومستدامة على نحو أكبر. ويعرض الإطار 32 نظرة حديثة عن مظاهر الإرادة السياسية على مستوى الاتحاد الأوروبي من خلال اعتماد "التوجيه المتعلق بالعناية الواجبة لاستدامة الشركات"، الذي يهدف إلى تعزيز السلوك المستدام والمسؤول لدى الشركات من أجل انتقال عادل نحو اقتصاد مستدام. وهو يهدف إلى تجاوز نطاق المعايير الطوعية من خلال تكليف الشركات بصورة ملزمة، بما فيها العاملة في قطاع الأغذية الزراعية، الذي يقع ضمن مجالات الأولوية ذات الأثر الكبير.

الإطار  32تهيئة المنافسة العادلة: توجيه الاتحاد الأوروبي المتعلق بالعناية الواجبة لاستدامة الشركات

أصدر الاتحاد الأوروبي تشريعًا أوروبيًا جديدًا هو التوجيه المتعلق بالعناية الواجبة لاستدامة الشركات بهدف تعزيز الممارسات التجارية المستدامة والمسؤولة في سلاسل القيمة العالمية كافة.21 واعتمد كل من البرلمان الأوروبي ومجلس الاتحاد الأوروبي هذا التوجيه في عام 2024 ودخل حيز التنفيذ في أواخر يوليو/تموز من العام نفسه. ويكلّف التوجيه الشركات بإجراء عمليات صارمة للعناية الواجبة من أجل تحديد الآثار السلبية على حقوق الإنسان والبيئة ومنعها والتخفيف منها في جميع عملياتها وسلاسل الإمدادات الخاصة بها. وهو يردع الشركات عن إهمال العناية الواجبة في سبيل اكتساب ميزة تنافسية. ويرسي التوجيه اتساقًا عادة ما يكون غائبًا في الاتفاقات الطوعية التي يشارك فيها عدد قليل فقط من الشركات. والجدير بالذكر أنّ قطاع الأغذية الزراعية جرى تحديده بوصفه قطاعًا عالي التأثير وذا أولوية.

وينطبق التوجيه على الشركات الكبيرة – سواء أكانت من الاتحاد الأوروبي أم من خارجه ولها أعمال تجارية كبيرة فيه – ولا سيما تلك التي يعمل فيها أكثر من 000 1 موظف ويزيد حجم مبيعاتها عن 450 مليون يورو. والهدف من هذا التركيز على الشركات الكبيرة هو ضمان تحقيق أثر كبير من دون زيادة العبء على الشركات الصغيرة. ويجب على الشركات أن تعمل باستمرار على تحديد وتقييم الآثار السلبية الفعلية المحتمل أن تخلّفها على حقوق الإنسان والبيئة. وينطوي ذلك على رسم خرائط لسلاسل القيمة بأكملها من أجل تسليط الضوء على مجالات المخاطر واتخاذ تدابير ترمي إلى منع تلك الآثار والتخفيف من حدتها.وينبغي أيضًا العمل بانتظام على إجراء رصد منتظم ورفع تقارير سنوية عن الجهود في مجال العناية الواجبة.

ويتعيّن أيضًا على الشركات اعتماد خطط انتقالية تكفل مواءمة نماذج أعمالها مع اتفاق باريس، بهدف إبقاء الاحترار العالمي عند عتبة 1.5 درجات مئوية. ويجب تحديث هذه الخطط بانتظام لكي تشمل التحسينات والتعديلات الجارية. وتُعدّ المشاركة الهادفة من جانب أصحاب المصلحة عنصرًا بالغ الأهمية حيث إنها تضمن إسماع آراء الأطراف المتضررة، بمن فيها الموظفون والمجتمعات المحلية، في عملية العناية الواجبة. كما يجب على الشركات أيضًا وضع آليات معالجة فعالة لأي تأثيرات سلبية يمكن أن تنشأ.

وتقوم كل دولة من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بتعيين سلطات للإشراف على الامتثال، وقد تواجه الشركات التي لا تلتزم بمتطلبات التوجيه غرامات كبيرة وتتحمّل مسؤوليات مدنية. وقد يجري استبعاد الشركات غير الملتزمة أيضًا من عمليات المشتريات العامة ضمن الاتحاد الأوروبي. وأعطيت الدول الأعضاء مهلة مدتها سنتان بعد دخول التوجيه حيز التنفيذ (في 24 يوليو/تموز 2024) لكي تحوّل التوجيه إلى قانون وطني. وينطوي التوجيه على نهج التنفيذ التدريجي، حيث يُطلب من الشركات البدء بتطبيق القواعد الجديدة على مراحل بناءً على حجمها وملامح المخاطر لديها.

ومن المحتمل أن يكون هذا التوجيه تشريعًا تاريخيًا لأنه يضع إطارًا ملزمًا قانونًا بشأن مساءلة الشركات وممارسات الأعمال المستدامة عبر سلاسل الإمدادات العالمية. غير أنّ تطبيقه سينطوي على الأرجح على تحديات عديدة بسبب التعقيد الذي تتسم به سلاسل إمدادات الأغذية الزراعية العالمية. وإنّ جمع البيانات الموثوقة التي يمكن التحقق منها، والقيام بالعناية الواجبة الشاملة وتنفيذ تدابير الإصلاح المرتبطة بالآثار الناجمة على البيئة وحقوق الإنسان من المورّدين والمقاولين من الباطن قد يكون مهمة صعبة للشركات من ناحية الموارد. أما على المستوى المؤسسي، فإنّ ضمان التطبيق المتسق في جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ومواءمة التوجيه مع القوانين والأنظمة الوطنية القائمة سيكون أمرًا حاسمًا لنجاح تطبيقه بفعالية.

وبالرغم من هذه التحديات، يمثّل التوجيه خطوة مهمة نحو تعزيز ممارسات الأعمال التجارية المستدامة والمسؤولة على المستوى العالمي ومساءلة الشركات عن آثارها البيئية والاجتماعية في جميع مراحل سلاسل القيمة الخاصة بها. ومع بدء سريان التوجيه، فإنه يعد بتحويل مساءلة الشركات من خلال إرساء المنافسة العادلة بحيث تكون الممارسات التجارية المسؤولة هي القاعدة المعمول بها.

المصدر: من إعداد المؤلفين.
back to top